لقد كانت الثورة الكوبية (1953 – 1959) ملهمة- ليست لشعوب أمريكا اللاتينية فحسب – بل لدول العالم أجمع، وخاصة دول العالم التالت، تلك التي ذاقت مرارة الاستعمار والديكتاتورية لفترات طويلة على مدار التاريخ وحتى منتصف القرن العشرين. والسينما كما نعرف هي دومًا نتاج الحراك التكنولوجي و الثقافي والاجتماعي والسياسي، منذ نشأتها وهي كذلك، وذلك ما نتلمسه عقب الحرب العالمية الأولى، منعكسًا في خطاب التعبيرية الألمانية، وفي دول اسكندنافيا، وفي الاتحاد السوفيتي عقب الثورة البلشفية، في ألمانيا بعد صعود النازية، بعد الحرب الثانية في إيطاليا وفرنسا واليابان ودول أوروبا الشرقية، وعلى مدار تاريخ تطورها كانت السينما – والفنون- انعكاسًا لمسار المجتمعات، والتاريخ.
نرى أثر الثورة الكوبية على المستوى السياسي والاجتماعي في الأرجنتين، البرازيل وتشيلي وغيرهم من الدول، ولقد ألهمت الثورة تيار "سينما نوفو" السينمائي، الذي اشتهر في الخمسينيات والستينيات، والذي تتجلى ذروته في خطاب جلوبير روشا الشهير "بيان الجوع" والذي ألقاه عام 1965 في مهرجان لوكارنو السينمائي ضمن فعاليات أسبوع السينما البرازيلية مستهلًا إياه ب " إن فننا يكمن في جوعنا"، لا يقتصر دور هذ الخطاب في كونه معبرًا عن البرازيليين فقط، ولا دول أمريكا اللاتينية، بل يشمل مأساة دول العالم الثالث كلها، وكما نعرف، تعقب النظرية- خاصة في الفن –ما هو "فني"، وذلك بالظبط ما حدث، فلقد ألقى جلوبير روشا بيان سينما نوفو عام 1965، والتي يؤرخ لها بأن رائدها هو المخرج نيلسون بيريرا بفيلمه " ريو، مائة درجة – Rio, 100 degrees" وهو الصادر عام 1955، إذن فلقد صدر البيان بعد الفيلم بعشر سنوات، لذلك يمكن تفهم لماذا كانت "النظرية" أو البيان الذي عنون ب "نحو سينما ثالثة" والذي صدر عام 1969 وكتبه كل من فرناندو سولانس وأوكتافيو جيتينو الأرجنتينيان قد صُك بعد أن خرجت عشرات الأفلام التي تتبع تيار السينما الثالثة وتعبر عن شعوب العالم الثالث، في كل من أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
وفي مقالهما \ بيانهما، المعنون ب "نحو سينما ثالثة، يصك الأرجنتينيان بعض مبادئ السينما الثالثة، فهما يعرّفان أولًا ما تعنيه السينما الثالثة، مشيران لسينما هوليوود والسينما التجارية بأنها السينما الأولى، والسينما الأوروبية الفنية، وحتى ما يعرف بسينما المؤلف هي ما يعرف بالسينما الثانية، أما السينما الثالثة فهي كل سينما تقف ضد الأيدولوجيا وتناهض الاستعمار بشكل مباشر، بدون الخضوع إلى الذوق الجماهيري والتجاري، أو قيود الإنتاج والتوزيع، وحتى ما هو جمالي، بل تنحاز بشكل مباشر إلى الخطاب التحريضي الحر، بالتالي رأى الاثنان، أن السينما التسجيلية هي أقرب شكل ممكن، يستطيع التماهي مع تلك المبادئ، فهي تستطيع أن تكون تحريضية، موجهة لجميع الطبقات، لا طبقة بعينها أو ذوق معين، ولقد رأوا أيضًا أن السينما الثالثة لابد أن تكون أداة نضال، وليست مجرد فن، ولذلك وصفوها ب "سينما الفاعلية" بالتالي فهي لا تُستهلك، بل "تُناقَش"، أيضًا فلقد ناقشا الفارق في تسمية تلك السينما ب السينما الثالثة، وليس "سينما العالم الثالث"، لأن ما يجمع السينما الثالثة في رأيهم، يجب أن يتخطى الجغرافيا، اللغة، والثقافة. أيضًا في بيانهما يناقش سولانس وجيتينو حلولًا عملية، رغبة في تجاوز ماهو نظري، مشيرين لأزمة التكلفة والعرض لتلك النوعية الخاصة من الأفلام، فنراهما يشيران مثلًا إلى عدم جدوى توزيع تلك النوعية، وبأنها محكومة بالفشل دومًا، وبأن ذلك لا يجب أن يمنع عرضها، ويضربان مثال بالاستعانة ببعض الأفلام الأرجنتينية، التي جرى عرضها داخل المنازل، في مساحة ضيقة، لا تستوعب أكثر من 25 فردًا، ولكنها تمت في النهاية، وكانت فاعلة، مثال آخر يضربانه وهو في الأورجواي، حينما امتلأت قاعة عرض في مونتفيديو ب 2500 متفرج في عرض سينمائي موجه ضد الإمبريالية. وبغض النظر عن التبعات، فإن الأمثلة التي ضربها سولانس وجيتينيو كانت بغرض إثبات الفاعلية والوجود، وهما المهمان، بغض النظر عن أي شيء آخر.
يتجاوز الاثنان ماهو نظري، بعمل فني واضح صريح قد أعلن عن نفسه بقوة وأصبح من العلامات البارزة في تاريخ السينما العالمية، وهو فيلم "ساعة الأفران – Hour of the furances" الصادر عام 1968.
ويعد ساعة الأفران بيانًا صريحًا، تحريضيًا، فريد جدًا من نوعه وطليعي في تلك الحقبة، لتذكر السينما جمهورها بفاعليتها المتجاوزة لكل حدود. الفيلم هو تسجيلي تتجاوز مدته الأربع ساعات، مقسّم إلى ثلاثة أجزاء.
الأول تحت مسمى " الاستعمار الجديد والعنف Neocolonialism and violence"
الثاني "فصل في الحرية – Act for liberation"
الثالث " العنف والحرية – Violence and liberation"
كل جزء هو أشبه بخطاب متلو، يعيد الحكي رغبة في التوثيق، يتجاوز التوثيق إلى المناقشة، لينتهي بالتحريض المباشر والفعلي الذي يقود إلى التغيير.
إذن، لم تكن السينما هنا غاية، مثلما في أي عمل آخر خاضع لقوانين جمالية، بل هو "أداة" متجاوزة في فعاليتها ما هو سينماي وفني، لتثري وتغير في الواقع، وهو ما يعكس بالفعل ما نصه الأرجنتينيان وآمنا به. فمثلًا في الجزء الأول من الفيلم نراه معنونًا ب ثلاثة عشر فصلًا، كل فصل هو توثيق لحدث، سياسة، أيدولوجية ما، فنرى بالترتيب عناوين الفصول هي:
التاريخ، البلد، العنف اليومي، مدينة الميناء، الأوليجارشية، النظام، العنف السياسي، العنصرية الجديدة، التبعية، العنف الثقافي، النماذج، الرفاه، الاختيار". لا تبدو عناوين الفصول وترتيبها محض مصادفة أو ترتيب عشوائي، بل تظهر النية الواضحة المترتبة على ذلك الترتيب \ التدرج المتصاعد للحكي، فيبدأ الفيلم بالتوثيق والحكي التاريخ، وشيئًا فشيئًا يتدرج في وصف السيطرة، الاستعمار وكيف أحكم قبضته وتمحور في أشكال جديدة وعديدة، ولا يكتفي الفيلم بالتوثيق، بل يترك في الفصل الأخير سؤالًا مفتوحًا للمتلقي، وهو أيهما يختار؟ أن يكون رفاة مثل من سبقوه، أو أن يقاتل أملًا في نيل حريته؟، ولا ينتهي الفيلم صراحة بترك الخيار مفتوحًا بل يشير بشكل واضح إلى أنه يحرض على الفعل، وعلى العمل الثوري، وهو ما يتضح أكثر في الجزئين التاليين للفيلم، ففي الجزء الثاني المعنون ب"فصل في الحرية" يتجاز الأمر مجرد التوثيق والتحليل، ذاهبًا إلى طرح الادوات\ الكيفيات الفاعلة المؤدية إلى التغيير عبر الفعل والعمل الثوري، وهذا ما يظهر في مستهل المقدمة، حينما يكتب على شاشة سوداء أن الفيلم مقدم إلى طبقات بعينها، مثل الطلاب، العمال، الفنانين، المثقفين، أولئك المضطهدين والثوريين، ويركز الفيلم على أن يكون تحريضيًا، موجهًا المتلقي على ضرورة العمل الثوري والكفاح المسلح، بوصفه السبيل الوحيد للتحرر من الاستعمار الجديد والديكتاتورية، ويربط الفيلم حركات التحرر العالمية ببعضها البعض، فنرى نضال دول أمريكا اللاتينية هو نفسه النضال الفيتنامي، الأسيوي والأفريقي. ونرى كل ذلك في خطاب تحريضي مباشر مكتوب على الشاشة إضافة إلى صوت الراوي الذي يحكي ويشحن. بل ويذهب الفيلم أبعد من ذلك، فيحتوى على وقفات، مقصودة لمناقشة كل جزء من الفيلم بعد عرضه، أي أنه مهيأ أصلًا ليكون ضمن ساحات نقاش حرة، وليس مخصصًا لدور العرض أو الأماكن العامة، وبذلك فو يتسق مع أهم تلك المبادئ التي صكها كل من سولانس وجيتينيو.
الجزء الثالث والأخير هو تحريضي على الفعل، ولا يكتفي بطرح خيارات عن كيفية الفعل أو التغيير، بل يحرض بشكل مباشر على العنف، وبأنه الطريقة الوحيدة للتحرر من سلطة الاستعمار الجديد، ويصفان العنف بأنه "دفاع عن الوجود" العنف عبر الكفاح المسلح، هذا ما رآه صانعا الفيلم وعبرا عنه بشكل مباشر، منطلقان من مناقشة العنف على مدار التاريخ وآلياته، مستعينان بأفكار فرانز فانون، في أن العنف لا يواجه ولا يسقط إلا بعنف مضاد، ويستعينان بما حدث في الجزائر وكوبا فيتنام وأفريقيا، وكلها أمثلة عبرت في رأيهم عن مفهوم "الثورة الناجحة".
وما يجمع الثلاثة أجزاء هو صوت الراوي المحرض، اللقطات الأرشيفية لخطابات سياسية، قمع، جوع، فقر، ثورات، كفاح مسلح، كلها نوع من اللقطات التي "تشحن" المتفرج، وتولد لديه نوعًا من الغضب المؤدي للتغيير، وهو نفس ما آمن به رواد سينما نوفو من قبل وانعكس في بيانهم الذي ألقاه روشا. كذلك يقترب الفيلم أكثر من كونه بيان صحفي أو ما نعرفه الآن في السينما بال "Essay film" فنرى وقفات، عناوين كبيرة (هيدلاينز) تحتها وبينها عناوين صغيرة وفرعية، نص مكتوب بالأبيض على خلفية سوداء، اقتباسات، فيقترب الفيلم كثيرًا من الطابع التقريري، وبذلك فهو يحد من عملية التفكير، فالخيارات التي يقدمها الفيلم شبه منعدمة، هو يضحي بكل ذلك من أجل هدف مباشر وواضح، وهو التغيير، ولكل ذلك عد الفيلم ثوريًا طليعيًا في زمنه، مشيرًا لقيمة الفيلم التسجيلي وخطورتها، والذي من بداية القرن العشرين تم إقصاؤه ووصمه بكونه "بدائي" كان ضروريًا في بدايات السينما ولم يعد، ولكن بفيلمهما أكد كل من سولانس وجيتينيو على بطلان هذا الادعاء، كما يتجاوز الفيلم السينمائي بطبيعته – حتى لو كانت تقريريه – ماهو صحافي مكتوب- نظرًا لأن الفيلم مقدم إلى جمهور في الغالب أكثريتهم لا يعرف القراءة أو الكتابة.
بالرجوع إلى الثورة الكوبية وجب الإشارة إلى فيلم آخر، لا يقل أهمية عن فيلم ساعة الأفران، وقد صدر في نفس العام أيضًا (1968)، وهو الفيلم الكوبي
"ذكريات التخلف – Memories of underdevolpment" للمخرج Tomas Gutierrez Alea والمبني على رواية الكاتب الكوبي Edmundo Desnoes الصادرة عام 1965. ولا يختلف ذكريات التخلف عن ساعة الأفران كثيرًا في الأسلوب والأدوات والهدف رغم أنه يقترب أكثر إلى كونه فيلم روائي أكثر منه وثائقي \ تسجيلي، وليس حتى ديكودراما. يرصد الفيلم المثقف الكوبي البرجوازي سيرجيو عام 1961 والذي بعد رحيل أهله وأصدقاؤه وزملاؤه يقرر البقاء في هافانا (عاصمة كوبا). يركز الفيلم على رصد أجواء كوبا بعد انقضاء الثورة بعامين، ويسترجع حدثين شكلا علامة فارقة في تاريخ كوبا الحديث بعد الثورة، وهما "غزو خليج الخنازير" عام 1961، و "أزمة الصواريخ الكوبية" عام 1962. كما يناقش الفيلم فاعلية العمل الثوري والسياسي، أزمة المجتمع وتغيراته، وذلك من خلال رصد شخصية سيرجيو المعبر عن أزمة الفرد البرجوازي بعد الثورة، فنرى سيرجيو هائمًا في مدينة هافانا متصعلكًا في شوارعها بينما يسترجع الثورة والأزمات التي خلفتها والمصاعب التي تواجه المجتمع الجديد، يحدث ذلك بينما ينخرط في علاقات نسائية متعددة بدافع النسيان. ويشترك رواد السينما الثالثة في تلك الموتيفة، موتيفة التصعلك و "مراقبة" المدينة، بعد الاستعمار، رغبة في فهم المفارقات. وهو ما نراه في السينما الإيرانية مثلًا مبكرًا في فيلم "مرآة وطوب" لإبراهيم كلستاني، ونراه في السينما الهندية عند ميرنال سين في فيلمه "المقابلة" ونراه في سينما البرازيل عند بيريرا مبكرا في فيلمه "ريو، مائة درجة" وفي السنغال نراه عند عثمان سيمبين في فيلمه "سائق العربة". كما يتتبع الفيلم نفس نهج ساعة الأفران رغم كونه روائيًا، فنرى المزج والتداخل بين اللقطات الأرشيفية والتوثيقية وبين خط الأحداث الرئيسي، نسمع أيضًا الصوت الداخلي للراوي العليم المعلق على الأحداث، وهو سيرجيو نفسه، في تعليقات ساخرة كثيرة متكررة على مدار الفيلم، يتخللها قليل من الجدية قرب النهاية، معلقة على الأوضاع الاسياسية والاجتماعية، ومعبرة أيضًا عن خواء الفرد البرجوازي بعد الثورة وأزمته الوجودية "المرفهة" طبقًا لما يعيشه المجتمع والعالم من حوله. ويعد رصد سيرجيو مختلفًا عن رصد رواد السينما الثانية \ مؤلفو سينما الحداثة الأوروبية للفرد البرجوازي، كالذي نراه في سينما أنطونيوني ورومير مثلًا، فرصد رومير وأنطونيوني هو رصد تأملي، لا يشير لأزمة الفرد البرجوازي بقدر ما يعرض ويفكك ويضيف، وهو ما نلتمسه بوضوح مثلًا في ثلاثية الحداثة لأنطونيوني، أو السداسية عند رومير، وربما هذا هو جوهر الاختلاف بين السينما الثانية وما عرف بالسينما الثالثة، ف "التأمل" يصبح رفاهية عند رواد السينما الثالثة، لأن الأهم هو المواجهة، الفاعلية والتغيير، كما أن السينما الثالثة موجهة لجميع طبقات الجماهير، على عكس السينما الثانية، التي يظهر أنها تطلب وعيًا "معينًا" وثقافة بقدر ما، وهو بالطبع غير شائع في غالبية دول العالم الثالث المستعمرة والمضطهدة والتي أصلا تفتقد لأساسيات الحياة، من جوع وملبس وأماكن تأويهم، لذلك لم يهتم رواد السينما الثالثة بماهو جمالي، بقدر ما هو تحريضي، إذن وبتطبيق ذلك على فيلم ذكريات التخلف، نرى بوضوح ما يؤرق سيرجيو، وهو الجوع والفقر والاستبداد من حوله، حتى بعد انتصار الثورة، وهذا ما يظهر في الجزء الأرشيفي في الفيلم، ويمنع البطل سيرجيو من محاولته التجاوز عبر لامبالاته المدعية، وهذا ما يؤدي إلى هذيانه في الأخير، في استشراف من الفيلم لأزمة الفرد في عصر الحداثة بوجه عام وعدم قدرته على التأقلم مع تسارع العالم من حوله، وليس فقط المواطن الكوبي بعد نجاح الثورة.
تعليقات
إرسال تعليق