ضمن عروض المسابقة الدولية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، جاء الفيلم التركي «الأشياء التي تقتلها – The Things You Kill» للمخرج والكاتب علي رضا خاتمي، بعد عرضه الأول في مهرجان صاندانس السينمائي. ورغم أهمية صاندانس ومكانته البارزة في خارطة المهرجانات العالمية، إلا أنه لا يُصنَّف ضمن مهرجانات الفئة «A» بحسب تصنيف «FIAPF» (الاتحاد الدولي لجمعية منتجي الأفلام)، ما يجعل مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة متوافقة تمامًا مع لوائح الاتحاد.
الفيلم، الذي حظي بنقاش واسع عقب عرضه، قُوبِل بتباين واضح في الآراء؛ إذ رآه كثيرون عملًا معقدًا ومفككًا وغير قادر على الإمساك بخيط واضح. لكن السؤال الذي بقي معلّقًا هو: هل كان الفيلم «فارغًا» حقًا بهذا القدر كما وصفه البعض؟
إشكالية اللغة والصدام مع الأب
في أحد مشاهد الفيلم، يقف بطل الفيلم «علي» – أستاذ اللغات – أمام تلاميذه في محاضرة يُلقيها عليهم، يشرّح فيها المعاني المتعددة للكلمات، ويتطرق إلى معنى كلمة الـ«ترجمة»، فيخبرهم أنه الـ«نقل»، والـ«توصيل»، والـ«قتل»…
في المشهد الأخير من الفيلم، تظهر علامات الصدمة على وجه علي، بعدما يجد والده يطرق بابه وقد امتلأ جسده بالجروح والدماء، فيقول له والده – المقتول سلفًا -: «أنا مُتعب». يدخل الأب لينام على الأرض، ثم يلفظ جملته الأخيرة: «اقتل الضوء!» ليتفاجأ علي بعدها بطرقات أخرى على بابه من شخص آخر، في مشهد سريالي صادم ينتهي بلقطة مقربة لوجهه وقد استبدّ به الفزع.
بالعودة إلى اللقطة الافتتاحية في الفيلم، نرى علي وزوجته «هازار» من وراء الزجاج، وهما يقفان في حديقة بيتهما صباحًا، وقد ظهر علي قبلها بعدسة ضبابية وهو يقف في مطبخه، فيما تحكي له هازار عن حلم راودها، رأت فيه أبيه وهو يكرّر نفس كلمات مشهد الفيلم الختامي: «أنا متعب… اقتلي الضوء». بربط كلا المشهدين، تتبيّن نزعة الفيلم الحُلْمية.
الربط هنا رباط شعري، ينسج جسورًا بين ما هو واقعي وما هو متخيّل أو حالم، أو مستدعى من الذاكرة. فنجد رابطًا قويًا وأصيلًا، موزّعًا بعناية على مدار الحكاية. هذا الرابط يتمثل في «سوء الفهم»، الذي يظهر منذ البداية في الجملة «اقتل الضوء»، وكأنه مقدمة لإشكالية لغوية تمتد لتشمل نطاقًا أوسع: الصراع بين علي وأبيه. إلا أن هذا الصراع لا يقتصر على علي وأبيه فحسب، بل يعكس صراعًا قديمًا وأزليًا، ممتدًا عبر الأجيال. بالتالي، يمكن النظر إلى الفيلم بأكمله على أنه «استعادة»؛ استعادة لضمير يُثقل عليه عقدة الذنب الناتجة عن سوء الفهم المتوارث عبر الزمن.
نعود هنا إلى الحبكة الرئيسية للفيلم، حيث نرى «علي» في بدايته وهو ذاهب إلى منزل أمه العجوز ليساعدها ويقضي لها حاجاتها. وبمجرد لقائه بأبيه «حامد» يظهر التواتر في العلاقة بينهما. بعد ذلك، تموت الأم، ويغمر الحزن علي، ويتصادم مع أبيه، فيما يُلقي الاثنان باللوم على بعضهما. بعد ذلك تحكي أخت علي عن واقعة لأبيها، حيث ضرب الأم وحبسها في المنزل لمدة يومين. هنا يقرر علي الانتقام من أبيه، ويبدأ في طلب المساعدة من حارس الأرض «رضا» الذي التقاه صدفةً من قبل، وقرر أن يعينه حارسًا لها، فيما يظهر رضا كشخص عدائي بلا ضمير.
ينتهي الأمر بقتل الأب ودفنه، ومن ثم انقلاب رضا على علي، لينتهي الأمر بتقييد رضا لعلي في سلسلة حيث لا يراه أحد، ويبدأ بأن يحل محله، تمامًا كإحلال كلمة مكان أخرى حتى لو كانت مختلفة، المهم هو تأديتها للغرض.
فلسفة الإحلال: تجلّي الظل محل الذات
من تلك النقطة، يتجه الفيلم إلى سرد رمزي أكثر، حيث الميل إلى المجازات والغوص أكثر فأكثر في لاوعي بطله «علي». فمن اللقطة الأولى التي يظهر فيها «رضا»، نراه آتيًا من بعيد متجليًا في مرآة صغيرة بجانب علي. المرايا موتيفة رئيسية في الحكاية، فهي تدعم البنية الحُلْمية للفيلم، لشخصيات مؤطرة داخل حَيز ضيق وكأنها محبوسة لا تقدر على التحرر، فيما تشير بدورها إلى دلالة أخرى، وهي الصور المتوهمة والمنبثقة عن الذات، فهي ذات متشظية لا تقدر على تعريف نفسها إلا من خلال تلك المرايا، بالتالي فهي لا تكتسب قيمتها إلا من خلال صور مقلوبة ومشوهة عن نفسها.
من بعد تقييد رضا لعلي، يحل رضا مكانه كزوج، وكبروفيسور، وكأخ، فيما لا يلاحظ أي أحد تغير الشخص ذاته، في دلالة على إحلال «الشادو/الظل»، وهو رضا، محل الذات، وهي «علي». من تلك النقطة أيضًا، بدا الفيلم مربكًا، وذلك طبيعي نتيجة تمثل ما هو رمزي، طغيانه ومحاولة معادلته بصريًا، فيما قام المخرج بتهميش الشخصيات الثانوية أيضًا مقابل الاهتمام بثنائية علي ورضا. وطبعًا، لأن الفيلم يتخذ أسلوبًا مغايرًا، بدءًا من ابتعاده عن الواقع والميل إلى سرد سريالي أكثر، كان طبيعيًا أن يسبب ذلك خللًا في كل من الإيقاع والحبكة.
على جانب آخر، تتجلى هنا المقاربة إلى فلسفة «كارل يونج» وتعريفه للأنماط المنبثقة عن الذات، وتحديدًا «الظل – Shadow». وبحسب ما يرى يونج، فإن الظل ليس مكوّنًا خارجيًا منفصلًا عن الذات، بل هو جزء جوهري منها، ويجب التماهي معه وتقبله، وبهذه الطريقة فقط يصل الإنسان للتوازن. لكن أزمة علي كانت متمثلة في إنكاره ونبذه لظله. لذلك لم يخرج الظل أو يحل محل علي إلا عند قتله لأبيه، من هنا كان التحرر الكامل لظل علي مُمثلًا في «رضا».
والإحلال ليس مقتصرًا هنا فقط، بل نرى تمثلًا آخر للإحلال الأوديبي، موجودًا في مثلث العلاقات بين الأم الميتة، والأب، وعلي. فهو صراع بين الأب والابن في الحصول على حب واهتمام الأم، في إحلال أوديبي كما رأى فرويد، بالتالي تكمن أزمة حامد مع علي في تعلق علي بأمه ورغبته بالتواجد معها. ورغم أن السبب الظاهري الذي يبديه حامد لنبذ علي هو عدم اهتمام علي لفترة من الزمن بأمه، إلا أن السبب الحقيقي يكمن في كره/غيرة حامد منه، وهو كره قديم لا يبدو مُستحدثًا.
صراع الأجيال، لعنة لن تفنى وكابوس أزلي
بالتالي، يبدو الصراعُ الرئيسي في الفيلم هو صراع الأجيال، متمثلًا في العنف الأبوي/الذكوري المتوارَث. إن تلك النزعة الذكورية المنتقلة من جيلٍ إلى آخر نراها متمثلة في ضعف علي الجنسي/عدم قدرته على الإنجاب أو التواصل العاطفي مع زوجته، فيما نعرف أصلها في مشهد المشفى، حيث ترقد عمة علي وتخبره باحتياجها لأبيه، وتحكي له قصة عن تعرض أبيه للتعنيف وهو صغير جراء دفاعه عنها في يوم من الأيام.
ذلك المشهد يُعد مدخلًا جوهريًا للحكاية، فهو إشارة إلى أن حامد كان ضحية العنف هو أيضًا، مما جعله مكوّنًا أساسيًا فيه، وهو عنف انتقل بالتواتر إلى علي، وبلغ ذروته مع رغبته في قتل حامد ودفنه، ليتجلى الظل «رضا» في الأخير كصرخة تمرد لعلي الذي عانى من كبت العنف المتوارَث داخله لسنوات. وبذلك، فإن علي لا يمكن أن يكون مدانًا بالكامل، وكذلك حامد؛ الكل مدان وضحية في الوقت نفسه!
يرجع رضا من المشفى إلى الحديقة غاضبًا، وتعد الحديقة في الفيلم مكانًا خارجًا عن حيز ما هو واقعي، حيث يلتقي علي بأفكاره اللاوعية هناك، وذلك ما يفسر تجلّي كل من الحديقة ورضا مع اقتراب الأم من الموت وازدياد أزماته مع أبيه، ومن ثم سيطرتهما كليًا على علي بعد موتها. يفاجئ رضا بعلي مدبرًا له مكيدة، حيث يتخلص علي من رضا عبر خنقه، ليعود إلى طبيعته؛ علي الذي يلتهمه الندم وقد تصالح مع ظله أخيرًا.
نصل إلى المشهد الأخير الذي تتجلّى فيه مواجهة أخيرة، لنرى تقاطعًا بين الواقع والحلم في مشهد يحمل ثِقَلًا نفسيًّا ورمزيًّا كبيرين، تحديدًا عند طلب حامد من علي أن «يقتل الضوء» وليس أن يطفئه، وكأن العنف لعنة سيزيفية لن تزول، حيث الشخصيات الحاملة له محكومٌ عليها بالبقاء في الظلام نتيجة سوء الفهم، وكأنه مقدر لها أن تعيش بقية حياتها أسيرة لتلك السلسلة الممتدة من سوء الفهم والعنف المرتبطان بشكل جذري باللغة، اللغة وهي الفضاء اليومي للتواصل، وقد كمنت المشكلة فيها، في إشارة لانقطاع كل أمل أو خلاص.
- نشرت المقالة بموقع فاصلة السينمائي بتاريخ 20 نوفمبر لعام 2025

تعليقات
إرسال تعليق