في فعاليات اليوم الثالث من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الـ46، وضمن عروض مسابقة آفاق السينما العربية، عُرض فيلم «شكوى رقم 713317» وهو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج المصري ياسر شفيعي والذي قام بكتابته أيضًا، بطولة محمود حميدة، شيرين، هنا شيحة ومحمد رضوان. ويشارك الفيلم ضمن مسابقة آفاق ثمانية أفلام أخرى من مختلف الدول العربية، ولا أبالغ إن قلت إن الفيلم حمل كثيرًا من المفاجآت بالنسبة لي.
يبدأ الفيلم برصد يوم عادي في حياة الزوجين مجدي وسما اللذين عاشا معًا ما يقارب 37 عامًا. ومن اللحظة الأولى ندرك أهمية «الثلاجة» في حياة العجوزين، فنرى مجدي وهو يتناول الآيس كريم بشكل متكرر، بينما سما في الليلة نفسها، وأثناء حفل تقاعدها، نراها تضع حاجياتها باهتمام واضح داخل الثلاجة. يلاحظ الزوجان أن الثلج داخل الفريزر يمنع الباب من الانغلاق، وعليه يحاول مجدي بنفسه تكسير الثلج، ليفاجأ بإحداثه ثقبًا في الفريزر. هنا تبدأ الأزمة، ولكن هل كان الثقب هو بداية الأزمة فعلًا؟
بالرجوع إلى مبادرة مجدي بـ«تكسير الثلج» يظهر أن فعل «التكسير» يعادل «الكشط»، وكل كشط أو تكسير أو إزالة هو بالتبعية يساوي كشفًا؛ كشفًا لجرح أو ذكرى أو سر ما دفين. بالتالي يتجاوز فعل مجدي ما هو عفوي وتلقائي، متوغّلًا في لاوعيه، كاشفًا عن محرّكه الحقيقي، والذي لا يتجلّى تحديدًا إلا ليلة حفلة خروج سما على المعاش، وهو ما يقول كثيرًا عن العلاقة في بداية الأحداث لتتبدى تباعًا على مدار الفيلم. لذلك كان تكسير الثلج يعادل التنقيب وإعادة النظر في جوهر العلاقة بين مجدي وسما، وهو ما يعني أن العطب في تلك العلاقة لم يكن مستحدثًا، بل كان، وبشكل أدق، راكدًا لا أكثر.
كرة الثلج وحِرفة بناء النكتة
تبدأ الأزمة الحقيقية بعد تعرّض الثلاجة لعطل نتيجة الثقب. عليه يتصل مجدي بإحدى شركات الصيانة لإرسال مندوب للقيام باللازم. يخبر المندوب مجدي بأن الثلاجة ستذهب إلى مركز صيانة ليتم استبدال باب الفريزر من الداخل بتكلفة تقترب من ثلاثة آلاف جنيه، يخجل مجدي من طلب النقود من سما، يدفع ما تبقّى معه ويعد المندوب بالباقي عند إصلاح الثلاجة. يعود المندوب ولم يستبدل الباب بل قام بلحام الثقب فقط، وهو ما أخبر مجدي بشأنه من قبل بأن «اللحام لن يكون كافيًا»، ليبدأ الأمر بسلسلة لامتناهية كابوسية لمجدي وسما مع شركة الصيانة تلك.
نلحظ أن حساسية مجدي بدأت من هنا، فلقد اضطر للكذب بشأن النقود التي دفعها لمندوب الصيانة فقط لكي لا يطلبها من سما، فيما تكتشف سما الأمر بعد ذلك، ومرة تلو أخرى ينشب صراع حقيقي بينهما ينتهي بصفع كل منهما للآخر. هنا كان واضحًا لجوء «شفيعي» لتقنية «كرة الثلج – Snowball»، وهي تقنية/أداة من أدوات الكوميديا تعتمد في جوهرها على التنامي. الأمر يبدأ بكذبة صغيرة تكبر شيئًا فشيئًا حتى تتحول إلى ورطة وأزمة كبيرة عصية على الحل. ولا يقتصر الأمر على العلاقة بين مجدي وسما فقط، بل نرى امتدادًا واضحًا لذلك في شخصية أسطى الصيانة، التي يقوم بدورها محمد رضوان، فكل مرة يأتي فيها لتصليح الثلاجة يحكي كذبة أكبر من سابقتها، حتى الانتهاء بكشفه بل وإذلاله في الأخير. كذلك شخصية الجارة التي تقوم بدورها هنا شيحة، والتي لا نتيقّن هل كانت كاذبة أم لا، لكنها تتعرض للضرب هي الأخرى. أيضًا الابن الشاب لمجدي وسما، والذي نراه يتهرب كل مرة من حضور مناسبة ما بحجة العمل، وعند وقوفه أمام الأمر الواقع حين طلب سما أن تبيت عنده نتأكد من كذبه. وكذلك صديقات سما اللاتي يتوقفن عن المجاملات بخصوص الأكل الذي تعدّه سما حين تعرّضها للإهانة.
الجميع يكذب، وكل كذبة صغيرة انتهت بالكشف، وهي كارثة في صورتها الأخيرة. وبالتأكيد فذلك التنامي ليس لغرض تحقيق الكوميديا عند الكشف عن الحقائق فقط، بل هو أداة مفككة للشخصيات ودواخلها. ويتجلّى ذلك في مشهد فنيّ الثلاجات حين مواجهته لمجدي وسما بأن ما ينقصهما هو إقامة علاقة حميمية، ويظهر فيما بعد حين اعتراف سما لصديقاتها بأن مجدي يغار ويتحسس منها بسبب حصولها على معاش كبير يفوق ما يملكه. إذن فالأمر ببساطة أن التنامي لا يطوّر أو يظهر جديدًا، بل يكشف بالتحديد ما هو كائن في نفوس شخوص الحكاية لينتهي بانفجار: مواجهة حادة بين مجدي وسما.
البارودي كطلقة رصاص
جملة «فاضحة» ينطقها مجدي أثناء المشادة بينه وبين سما، مضمونها أنه عاش واقترب من الموت ولم يستطع أن يأخذ حقه، وتلك المرة لن يتركه. تكشف تلك الجملة عن تاريخ شخصية مجدي، وربما من خلال جملة عابرة كتلك نتبين منبع حساسيته تجاه راتب تقاعد سما. الأمر ببساطة عبارة عن نظرة دونية للذات، فهي ذات عانت من الخسران طويلًا. هنا كان الانتصار العظيم بالنسبة لتلك الذات المثيرة للشفقة والمتمثلة في مجدي هو «تصليح الثلاجة». الأمر لا يعدو أكثر من مجرد نكتة سوداء؛ فمجدي لا يطمح لشيء في نهاية حياته سوى ذاك الانتصار، وهو انتصار «تافه» متمحور حول تصليح ثلاجته.
ويظهر نبوغ شفيعي في لقطة فارقة، حينما يكون مجدي هو الآمر الناهي للأسطى، يرتّب عملية تصليح الثلاجة كما يشاء و«على كيفه» في حضور الست صاحبة الشركة، التي قامت بدورها إنعام سالوسة في ظهور مميز للغاية، والمحقق الكاريكاتوري الذي بدا مكمّلًا لدائرة العبث. لقطة عابرة وسريعة، هي عبارة عن ابتسامة زهو لمجدي مع إضاءة صفراء تزيد في العلو رفقة موسيقى توحي بالانتصار. وهو انتصار، عند النظر إليه ظاهريًا، يبدو أوليًا، لكن بالتدقيق فهو مجرد انتصار «بتصليح الثلاجة» وعلى «أسطى تصليح ثلاجات» بمساعدة صاحبة شركة هاوية تمامًا ومحقق لا ينطق بشيء سوى الموافقة على كل ما يقوله مجدي. هنا تجلت سخرية شفيعي ووعيه أيضًا؛ فهو يكشف ضحالة ذلك الانتصار وزيفه ومدى بؤس صاحبه مجدي.
ولم يكن أسلوب شفيعي في تلك اللقطة مفاجئًا، بل من البداية اعتمد شفيعي بشكل رئيسي في كوميديا فيلمه على حركة الكاميرا والقطعات السريعة المتنقلة بلقطات مقربة على الوجوه، لا تبدي سوى ردود فعل صامتة كانت قادرة على شرح كل شيء بدورها على مدار الفيلم. وهي طريقة في الكوميديا ليست سهلة إطلاقًا، لكن بالطبع ساعده في ذلك طاقم التمثيل الاحترافي وحسن إدارته له.
بيروقراطية لن تزول: الاسم مدخلًا للنص
عند قراءتي لاسم الفيلم في المرة الأولى، ورغم كونه ملفتًا للانتباه، لم أهتم كثيرًا بما قد يحمله من معانٍ، ربما ظننته عشوائيًا للدلالة على البيروقراطية ورتابتها. متناسيًا القاعدة الأهم: كل فيلم جيد بالضرورة يحمل اسمًا جيدًا، وهو بلا شك مدخل مناسب لتفكيكه. بالتالي يتضح مع نهاية الفيلم أن الرقم المبالغ في طوله ليس فقط للدلالة على رتابة البيروقراطية وطبيعة المعاناة داخلها، بل الأرقام الأولى من اليسار مقلوبة على الجهة الأخرى، في دلالة واضحة على أن الأمر أشبه بسعي دائري، حيث نقطة النهاية هي البداية من جديد، وبأن تلك الدائرة لا تُكسر.
يظهر ذلك قبيل الذروة؛ فبينما تعد سما الشاي للموجودين، تنكسر بكرة من بكرات البوتاجاز، متزامنًا ذلك مع قرب تصليح الثلاجة، في إشارة إلى أنها سلسلة من الأعطال لن تنتهي. يدعم ذلك اللقطة الأخيرة من الفيلم، فبعد أن يقرر مجدي كسر تلك الدائرة للأبد، نرى مجدي وسما متعانقين، متكئ كل منهما على الآخر، ورغم أن المشهد يبدو حالمًا وسعيدًا، إلا أنهما في النهاية مؤطَّران داخل حيز الثلاجة.
- نشرت المقالة بموقع فاصلة السينمائي، بتاريخ 16 نوفمبر لعام 2025

تعليقات
إرسال تعليق