إن عملية نقل نص أدبي للسينما ومحاكاته قد وجدت في مرحلة مبكرة جدًا في تاريخ السينما، وقد كان فيلم A trip to the moon الصادر عام 1902 ومن إخراج الفرنسي جورج ميليه هو أول فيلم يؤسس لجذور تلك العلاقة بين الأدب والسينما ويوثقها...
واشتهرت هوليوود في فترتها الذهبية بميلها لمحاكاة النصوص الأدبية، كما مال مخرجو هوليوود للنصوص الأدبية المباشرة- أو محاكاتها كما هي مع بعض التغييرات الطفيفة، وربما يعكس ذلك بشكل ما ثقافة الفيلم الهوليوودي، وانصياعه للثقافة الجماهيرية على حساب الرؤية الذاتية للفنان، وهو هنا صاحب العمل- المخرج..
في هذا المقال يتم تناول بعض المحاكات السينمائية المتفردة، التي اُقتبست عن أعمال أدبية مشهورة، وكيف تمت عملية تطويع تلك الأعمال لخدمة أفكار المخرج ورؤيته الذاتية، والتي تذهب بالعمل الأدبي بعيدًا عن صانعه، وتعطيه أبعاد وتأويلات أخرى..
دوستويفسكي من الأدباء الذين نالت أعمالهم شهرة أدبية واسعة، وامتدت تلك الشهرة للسينما حيث حاكى الكثير من المخرجين أعماله في كل نواحي العالم، خاصة "الجريمة والعقاب والأبله والأخوة كارامازوف"، هنا يوجد بعض الأعمال السينمائية التي تناولت روايات دوستويفسكي بشكل عبقري ومغاير، بعيد تماما عن المحاكاة التقليدية...
إن أبرز من نقل دوستويفسكي إلى السينما هو المخرج الفرنسي روبير بريسون، وبريسون متيم
بمحاكاة الأعمال الأدبية، حتى أنه حاكى لدوستوفسكي وحده أربعة أعمال وهم: مخلوق لطيف، الليالي البيضاء، الأبله، والجريمة والعقاب...
وفي رأيي فإن بريسون هو أفضل مطوع للأعمال الأدبية، فهو يبتعد تماما عن المحاكاة التقليدية، يحتفظ فقط بروح العمل الأدبي ويتحرك حيث يشاء، فارضًا رؤيته بحرية تامة..
يظهر ذلك في محاكاة بريسون لرواية الأبله في فيلمه المعنون ب
Au hasard Balthazar
والرواية لمن قرأها يعرف مسبقًا أن البطل الرئيسي هو الأمير ميشكين، البطل البريء الحالم، والذي تحركه نزعته الخيرة، هنا بريسون يبتعد تماما عن جعل ميشكين نقطة انطلاق لفيلمه، ومن خلال شخصيتين فرعيتين في الرواية، يتم ذكرهما في بضعة سطور في رواية تتعدى الألف صفحة، ينطلق بريسون منهما، مجسدًا فيهما شخص بطل دوستويفسكي الأبله، فبالتزار هو الحمار الذي تم ذكره في الرواية على لسان ميشكين بشكل عابر بينما يحكي لأقرباءه عن كيف أنه في أحد الأيام وأثناء مروره بالسوق سمع بنهيق حمار، فشعر حينها بتواصل روحي عميق معه، شعر بعذابه وتقاسمه معه، أما ماري وهي الشخصية المحورية في فيلم بريسون فهي فتاة حكى عنها ميشكين، وكيف أنها كانت فتاة معذبة، مسحوقة من قِبل أهل قريتها، إن بريسون يبني فيلمه على ذلك التواصل الروحي العميق بين كل من ميشكين وماري وبالتزار، فهم جميعًا أرواح معذبة تتشارك المعاناة في عالم مادي ينبذ البراءة، وذلك هو جوهر الرواية الذي آمن به بريسون وانطلق منه...
وفعل بريسون المثل؛ وهو الاحتفاظ بروح الرواية والإنطلاق من رؤيته الذاتية فقط، مع فيلمه النشال - Pickpocket وهو محاكاة لرواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي..
وكما يعرف عن بطل الجريمة والعقاب وهو راسكولنيكوف، فهو ظاهريا يرتكب فعل القتل نظرًا لكرهه واحتقاره للمرابية العجوز، أو كما تتفق بعض الرؤى على أنه قتل بداعي المال، بالطبع فالموضوع يتعدى ذلك، وبريسون كان من الواعين تمامًا لروح ذلك النص، وعليه يتجاهل بريسون تماما فعل القتل، يحوله إلى إدمان- عادة السرقة، ولا يفصح بطل بريسون عن دوافعه حتى، وهنا يظهر الوعي الكبير لدى بريسون بمضمون رواية دوستويفسكي، وهو أن البطل مجرد رد فعل متمرد تجاه مجتمعه، ولذا فكلا الفعلين؛ القتل في الرواية الأصلية والسرقة هنا هي أفعال تبدو شاذة- عنيفة، يرفضها المجتمع ولكنه المسبب فيها، فهي تندرج في علم النفس تحت تصنيف أفعال عصابية، نابعة من ذلك الكبت المجتمعي الذي يعاني منه كلا البطليَن، وعليه فلا يبرر بريسون فعل بطله، فهو ينفي أن بطله يسرق احتياجًا للمال، بريسون يرفض ذلك النوع من التعاطف الاستهلاكي، وذلك ما أدى إلى ردود فعل محبطة حين عرض الفيلم على الجمهور العام، فالجمهور في النهاية في حاجة لمبرر، إما للتعاطف أو لكره البطل وهذا ما يرفضه بريسون...
وعلى غرار بريسون يكون المخرج البولندي آندريه زولافسكي وهو متيم آخر بنقل الأعمال الأدبية للسينما، فاقتبس عن دوستويفسكي رواية الشياطين وحاكاها في فيلم باسم
The public woman
ومحاكاة للأبله تمثلت في فيلم
Mad love
الصادر عن عام 1985، وهنا يبتعد زولافسكي عن شخص الأبله تماما والمحاكات التقليدية له، فهو هنا عضو في عصابة، متقلب المزاج، شرير كما يبدو ظاهريًا للمجتمع، وينطلق زولافسكي من الرواية من خلال خيط محوري فيها؛ وهو حب الأمير ميشكين لنستاسيا، ويحافظ زولاوفسكي في طرحه على ما رسمه دوستويفسكي من قبل، ولذلك فبرغم أن ميشكين هنا هو شخص يميل للعنف بطبعه ولكنه يركع أمام محبوبته، في ذلك الحين تتجلى هشاشته، وبراءته اللامحدودة، والحب وحده يكون هو القادر على فعل ذلك، وهنا يركز زولافسكي على محاولة فهم منبع ذلك الحب المتطرف، الذي يصل لحد العبادة، وبالطبع فالفيلم ينصاع لقوانين عوالم زولاوفسكي، فهي عوالم معقدة، أبطالها عصابيون، يميلون للشر..
وذلك ما يفسر نهاية الفيلم، وهي نهاية نقيضة تماما لنهاية دوستويفسكي..
من المحاكات المتميزة أيضًا هي محاكاة المخرج الياباني أكيرا كورساوا لرائعة تولستوي
"موت إيڤان إيليتش" واجتهاد كورساوا في محاكاة الرواية نبع من فرضية بسيطة طرحها كورساوا، وفيها تجلت الرؤية المغايرة لنص تولستوي؛ فعوضًا عن اختيار كورساوا لبطله أن يغرق في الندم ويموت في الأخير كبطل تولستوي المنهزم، فهو يختار أن يعطي الفرصة لبطله في عيش الحياة التي لم يعشها، وبدلًا من الندم يستقبل بطل كورساوا الموت في الأخير برضًا تام، لأنه عاش الحياة التي تمناها دومًا، وعليه يتصالح مع الموت..
أما الإيطالي المتمرد بازوليني فهو يتناول عمل تولستوي بشكل متفرد تمامًا، فهو يبتعد كثيرًا عن الرواية وسياقها، محتفظًا بجوهرها، فيبدأ بازوليني فيلمه وهو
Teorema والصادر عام 1968
بذلك الأب البرجوازي الذي يشرف على الإفلاس، ذلك الأب هو رب لعائلة فاقدة لهويتها، مشتتة، غارقة في ماديتها، وكانت عائلة البطل في عمل تولستوي بالمثل لا يهتمون بآلام الأب فكل منهم غارق في عالمه، هنا يلمس بازوليني جوهر عمل تولستوي، فتولستوي جعل من بطله ضحية، انساقت لمتطلبات المجتمع الحديث- ثقافته الاستهلاكية، وذلك ما يؤدي في الأخير إلى مجتمع بلا روح، أسرة مفككة وأب يعاني الضياع في نهاية حياته لأنه لم يعش كما يريد، ولكن بازوليني يجعل ضياع الأب ممتدًا لأسرته، حتى الحل الذي يقدمه بازوليني هنا- المتمثل في الزائر الغريب، فهو طرح مغاير لشخصية الخادم في عمل تولستوي، وهنا لا يقتصر تأثيره الإيجابي على الأب فقط، بل يمتد ليحيط العائلة كلها برعايته، وبمفهوم مغاير يرى بازوليني المخلص؛ فهو يحل عقد أبطاله عن طريق تحريرهم جنسيًا في البدء، وبالطبع فذلك يخدم رؤية بازوليني، كما لا يخلو الفيلم من هجاء المجتمع الرأسمالي، المستهلك للإنسان والمنطلق من رؤية مسيحية ماركسية كعادة بازوليني.. والنهاية تتلاقى بشكل ما مع النهاية التي اختارها تولستوي، فهي تفضي إلى معاناة لانهائية للإنسان، تنتهي بالصراخ..
محاكاة عبقرية أخرى تتمثل في سينما الفلبيني لاڤ دياز والمتيم بالأدب أيضًا، وتمثلت تلك المحاكاة بفيلم
"The woman who left"
الصادر عام 2016، وهو مقتبس عن قصة قصيرة لتولستوي باسم
"God sees the truth but waits"
القصة الأصلية يكون البطل فيها مظلومًا اتهم بالزور فحكم عليه بالسجد المؤبد وحينما يحين وقت إطلاق سراحه يكون قد مات، وعلى خطى كورساوا يكون لاڤ دياز، فبدلا من اختيار الموت لبطله، يسمح دياز "لبطلته" أن تخرج من السجن، وتخوض صراعًا نفسيًا، بعد شعورها بالحرية، فتقع ضحية التفكير؛ بين محاولتها أن تغفر وتنسى الماضي وتعش الحياة من جديد، وبين رغبتها الانتقامية الكبيرة التي تحركها، وهنا يعطي دياز أبعادًا أخرى للقصة، ومعضلات أخلاقية جديدة، فبطلته تعاني صراعا نفسيا بين الانتقام والغفران، وحتى المذنب في حقها فهو لا يشعر بالذنب، وتلك صدمة أخرى ومفارقة يصنعها دياز، والذي يميل دومًا لخلق شخصيات رمادية ليست بالشر أو الخير المطلق..
بالنظر إلى نتاج السينما المصرية في منتصف القرن الماضي وما بعده، فإن السينما المصرية كانت زاخرة بالأعمال السينمائية المقتبسة من أصل أدبي، ويرجع ذلك بالطبع لسعة الاطلاع الكبيرة حينها على الأدب العالمي، والوسط الثقافي الأدبي المعطاء متمثلًا في مجموعة متميزة من الكتاب لقبوا ب "كتاب الستينيات"، وربما تكمن المشكلة هنا في عدم استيعاب كامل من جانب نخبة المخرجين حينها لطبيعة الأعمال الأدبية سواء المحلية أو العالمية؛ وينطوي ذلك على قلة وعي كافي بالمضمون أولًا، ومن ثم تكاسل عن قراءة تلك الأعمال بشكل يتخطى الظاهر، فاهتم المخرجون بالرؤية الاجتماعية مثلًا بينما تجاهلوا الأبعاد النفسية والوجودية لطبيعة تلك الأعمال، وربما يكون ذلك مبررًا عند تمعن الوضع السياسي حينها في الدولة، يمكن وقتها فهم لما اهتم أولئك المخرجون برصد الجانب الاجتماعي فيما حاكوا من أعمال...
لقد وعي مخرجو الواقعية الجديدة
(كما يحب النقاد تسميتهم) لذلك النقص عند من سبقوهم، فكان أكثر ما ميزهم هو اجتياز الواقع لما هو أبعد، فكانت نقطة انطلاقهم دومًا هي رصد الواقع المجتمعي لكنهم ينتهون دومًا لما هو أثرى؛ إلى أبعاد وجودية وحالمة، عوالم فانتازية أحيانًا، لينتهي الأمر بهم في الأخير إلى خلق واقع بديل، وأبعاد أخرى للأعمال الأدبية التي حاكوها..
فنجد ذلك عند رأفت الميهي مثلًا في فيلمه
"قليل من الحب كثير من العنف" المقتبس عن رواية بنفس الإسم لفتحي غانم، فهنا لا يتوقف الميهي عند نقله الرواية وصراعات أبطالها، بل يضيف الميهي لها أولًا لمسته الساخرة كعادته، متجسدة في خط سردي موازي للقصة الأصلية، وفيه تظهر الكوميديا السوداء التي اعتدناها من الميهي..
ومن ثم نزعته الذاتية؛ والتي تظهر في خط سردي ثالث خارج عالم الفيلم، يمثل فيه الميهي صراع الفنان مع الرقابة حين محاولة كتابة عمل إبداعي حر..
أما داود عبد السيد في فيلمه الكيت كات وهو عن رواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان، يركز على الحارة، وكأنه لا شيء خارجها، كما أن الشيخ حسني في الرواية الأصلية لا يحتل مكانة رئيسية، فهو ليس بطلًا ولا محركًا للحدث، بقدر يوسف مثلاً، وبالرجوع لأدب أصلان فهو يخلو دومًا من بطل محوري، ولكن داود يهتم برصد حارته من خلال الشيخ حسني كمؤسس وراوي
، وفي مقابل الاهتمام برصد الحارة، يتخلى داود عن تناول الجانب السياسي في الرواية وذلك ما يفسر تهميش شخصية فاعلة كيوسف مقابل ظهور الشيخ حسني بشكل أكبر، الجدير بالإعجاب هنا أن داود لم يتخلى عن النزعة التمردية في الرواية، فكانت حاضرة في بشدة في الفيلم، متجسدة في الشيخ حسني وهو هنا يعبر عن النزعة الوجودية، الباحثة دوما عن الحياة، المبصر رغم أنف أهل الحارة، يوسف ومنظوره للحب، تجسيدا للتيه، وربما يوسف في فيلم داود هو من يعطي الفيلم بعدًا تمرديًا، ويدعم بدوره وجودية داود عبد السيد..
أيضًا وجدت محاكاة أسامة فوزي لرواية الكاتب البرازيلي جورجي آمادو "ميتتان لرجل واحد"، في فيلم جنة الشياطين، كتابة مصطفى ذكري ، وهي محاولة شجاعة كثيرًا، بالنظر لطبيعة الرواية؛ فهي تندرج تحت تيمة الواقعية السحرية، بجانب أن موضوع الرواية نفسه قد يكون غريبًا بالنسبة للجمهور العام، وفي الفيلم "طَبل" (الميت سلفًا) يقاد من قبل مجموعة من أصدقاءه السكارى في رحلة لليلة واحدة في الحواري والأزقة، فكرة غريبة تمامًا على السينما المصرية لكن كلا من مصطفى ذكري وأسامة فوزي يجعلناها معقولة تمامًا، ممصرة بشكل مذهل، وبالنظر إلى عوالم أسامة فوزي وهو مخرج تغلب عليه نزعته الوجودية، فهو يرى دومًا أن أبطاله هم تجسيد لشخصيات أسطورية وخالدة، ولذلك فسينماه يغلب عليها الطابع الميثولوجي...
ولذلك وعلى خلاف الرواية التي تنتهي فيها رحلة البطل بالموت، يجعل أسامة من بطله طبل مستمرًا في رحلة لانهائية من اللذة والاستمتاع بالحياة.
تعليقات
إرسال تعليق