القائمة الرئيسية

الصفحات

سينما أندريه تاركوفسكي وإحالات إلى فن الرسم

 لُقبت السينما بالفن السابع- أم الفنون ربما لأنها أتت جامعة لما قبلها ومتممة له، فذهبت بالرسم والمعمار والموسيقى والنحت والأدب إلى فضاءات جديدة، وبناءًا عليه رحبت السينما بتأويلات جديدة لما سبقها من فنون من خلال فضاءاتها الغير محدودة، بجانب إبداع فنانيها والإمكانيات الحديثة التي مكنتهم من الاطلاع على ما سبقهم من فنون ومُبدعين، فكان ذلك داعمًا ومحفزًا لهم لنتاج إبداعي غير مسبوق..



كان الروسي أندريه أرسيني تاركوفسكي أكثر المُتنبهين لأهمية السينما وما تستطيع ولوجه والوصول إليه، فآمن بها، كوسيط وفضاء جديد، وكإمكانية للنحت في الزمن، فآمن بالصورة وبقدرتها على خلق بعد جمالي، شاعري، يذهب إلى أبعد ما تضمنه الصورة في ظاهرها من معان ..


 عِلتيّن؛ ربما هما نقطة الإنطلاق في فهم سينما تاركوفسكي؛ "الحنين - الخلاص" 


الحنين إلى الوطن، الذات، الطبيعة، والرغبة في تخليص العالم من آثامه، الحضارة بما جلبته من قيود أبعدت الإنسان عن ذاته..


تمثل حنين تاركوفسكي في أول أفلامه "طفولة إيفان" فهو حنين إلى الطفولة، البراءة، إلى زمان بلا حرب..


حنين إلى الذات في "المرآة، سولاريس؛ فهو حنين إلى الأب الفقيد، إلى البيت القديم وبساطة العيّش.. 


أما  "نوستاليجا" فهو حنين إلى الوطن الذي أُكره على البعد عنه، فهو يعاني من البعد ويفقتد إليه..

 


رغبة في تخليص الإنسانية تتجلى في "أندريه روبليف، المُرشد، نوستاليجا، تضحية".. 


من خلال إدراك ولمس تلك النقاط الجوهرية في سينما تاركوفسكي يمكن حينها سهولة الربط بين أفلام تاركوفسكي وبعضها، فكل فيلم هو متمم لآخر، أيضًا يمكن فهم إحالاته الفنية إلى فنانين استعان بهم ك بيتر بروجل، دافنشي، باخ، رامبرانت...  


وبالحديث عن الإحالات فتاركوفسكي استخدم الكثير منها في أفلامه؛ بالأخص تلك الإحالات إلى فن الرسم ليعيد خلق رموز وشخصيات تاريخية من جديد في عالمنا المعاصر، فتعاني فيه وتسعى لتخليصه..


1- فيلم سولاريس وعودة الإبن الضال

- The Return of the Prodigal Son (1669) by Rembrandt-Solaris (1979)


كان سولاريس هو رد الاتحاد السوفيتي على النتاج الأمريكي  الذي تجلى بتحفة كيوبريك الرائدة "أوديسا الفضاء" 

وعلى غرار عودة أودوسيوس للديار في أوديسا هوميروس يعود كيوبريك بالسوبر مان الذي تنبأ به "نيتشه" إلى كوكب الأرض فارضًا قيمه الجديدة وإرادته.. 


فلم يكن رد تاركوفسكي إلا بجملة تجلت في سولاريس، يعلن من خلالها عن رفضه لمبدأ كيوبريك 


"We don't need to discover a new worlds to know ourselves, we need a mirror" 


ويعود بعدها بثلاثة أعوام بفيلمه المرآة على غرار هيراقليطس فيبحث فيه عن نفسه..


وكان سولاريس فيلم يبحث فيه بطله عن ذاته أيضًا، فلم يكن الكوكب الذي ذهب إليه إلا عبارة عن إنعكاس للا وعيه وباطنه فيكون حينها في حرب مع نفسه، بواطنه، ذكرياته... 

وفي ختام تجربة تاركوفسكي يعود بطله، ربما مُتوهِمًا إلى بيته ويركع عند ركبتيّ أبيه كما يرجع الإبن الضال في لوحة رامبرانت ويحتضنه أباه، ولا يمكن اقتصار المحاكاة على مجرد تشابه نهاية الفيلم بلوحة رامبرانت بل يصبح الفيلم بأكمله هو محاكاة لرحلة الفتى النادم بلوحة رامبرانت، تلك الرحلة التي لم تظهر في اللوحة يخلقها تاركوفسكي بفيلمه ويذهب بلوحة رامبرانت إلى فضاء جديد؛ حينها يكون سولاريس قصيدة ندم مطولة تُرثي الفتى وعذاباته التي خاضها لأجل العودة إلى حضن أبيه...


- نوستاليجا وعالم كريستينا

- Christina's World (1948) by Andrew Wyeth-Nostaliga (1983)


كان "نوستاليجا" هو أول فيلم لتاركوفسكي خارج روسيا والفيلم قبل الأخير له، بعدما تم منعه من إنتاج أفلامه بروسيا نظرًا لبضع مشاكل سابقة بدأت منذ فيلم "سولاريس" ويمكن القول بأن نوستاليجا كفيلم هو أكثر أفلام أندريه ذاتية، حتى من فيلم المرآة نفسه؛ ربما لأن نوستاليجا كان حالة حاضرة، مرافقة لتاركوفسكي، تتجلى فيها عذابات كثيرة ببعده عن وطنه الأم وتعرضه للنبذ، وكما يظهر في المشهد الأخير لفيلم نوستاليجا؛ يبعُد البطل عن بيته على غرار لوحة أندريه وايث التي تظهر بها كريستينا تواقه إلى البيت ولكنها عاجزة عن الوصول إليه..


إن العجز الذي ينتاب بطل فيلم نوستاليجا هو عجز كان نتاجًا لصراعات عدة؛ فتكون رحلة بطله أشبه برؤية لتاركوفسكي لسبب عجز كريستينا فعجزها ليس جسديًا متجليًا في لوية كاحلها فقط بل له أبعاد أخرى يتولى تاركوفسكي تجسيدها في بطله، ولكن على نقيض كريستينا المتلهفة لمنزلها يدير بطل فيلم تاركوفسكي ظهره للمنزل، للوطن، وكأنه قد تجاوزه ولم يعد يأبه إليه، ولكن الوطن في النهاية لا ينفك عن مطاردته، ويصبح نوستاليجا كقصيدة حنين في رثاء الوطن..


3- المرشد والقديس يوحنا



كان فيلم "المرشد لتاركوفسكي آخر أفلامه في وطنه، وربما يتجلى فيه الصراع الذي اشتغل به تاركوفسكي طوال مسيرته، الصراع بين الروح والمادة، بين الإيمان والعدم... 


وكانت شخصية المرشد هي ثالث أخُرتان؛ كاتب وعالم، والثلاثة في طريقهم لاستكشاف غرفة مُحملة بلغز يدعي المرشد معرفته..


عند الوصول إلى الغرفة تخيب آمالهم جميعًا وأكثرهم المرشد، فهم لا يرون ما يراه هو، حينها يتجلى تساؤل وهو هل المرشد مُبشر جديد؟ أم هو عبارة عن مجنون آخرٍ بالوهم!


 يترك تاركوفسكي الباب مفتوحًا لتأويلات عدة ولكن كعادته لا ينفك عن إحالاته إلى شخصيات ورموز تاريخيه؛ فيظهر بإحدي المشاهد المطولة التي ترصد بركة ماء مهجورة، صفحة من كتاب قديم عليها رسمة لل "القديس يوحنا" وعرف عن يوحنا بأنه كان تابعًا مخلصًا للمسيح، مصدقًا لرسالته وكان مرشدًا للبشر؛ فيدلهم لطريق النور والخلاص، كما تم رسمه مرات عديدة يخلفه ملاكًا من نور كدليل على نقاءه وبصيرته فيربط حينها تاركوفسكي بين يوحنا وبين مرشده كمخلصيّن للبشرية من سباتها العميق..


4- لوحة بيتر بروجل "الصيادين في الثلج" 

The Hunters in the Snow (1565) by Pieter Bruegel
ظهرت بفيلميّ-Solaris (1972)-The mirror (1975)


وكما ذُكر سلفًا فإن الصراع الأكبر الذي اشتغل به تاركوفسكي كان صراعًا بين المادة والروح، بين حضارة يكون فيها الإنسان مُستهلكًا وبين ماضٍ عاش فيه الإنسان نقيًا لم يتلوث بمحدثات الحضارة بعد..  

فتظهر لوحة بروجل بفيلميّ "سولاريس، المرآة" أكثر أفلامه التي تتجلى فيها رغبته الطاغية في فهم النفس والعودة إلى صورتها الأولية النقية، وربما كانت تلك هي رؤية تاركوفسكي للوحة بيتر بروجل في إشارة منه بالرغبة في العودة إلى الماضي، إلى تلك النفس القديمة التي لم تُلوث بعد بأولئك القادمين المُخربين..


5- العذراء والتبشير بخلاص البشرية

- Madonna del Parto by Piero della Francescaظهرت بفيلم "Nostaliga" 
-Adoration of the Magi (1481) by Leonardo da Vinciظهرت بفيلم "The sacrifice"


استعان تاركوفسكي بلوحتين للعذراء 

وهما 

- Madonna del Parto 


التي ظهرت بفيلم "نوستاليجا" 


ولوحة   

 -Adoration of the Magi


التي ظهرت بفيلم "تضحية" 


وفي المرة الأولى لظهور العذراء بفيلم نوستاليجا، الفيلم الذي سبق فيلم تاركوفسكي الأخير تضحية، تظهر العذراء وهي تحمل بداخلها المسيح ويبدو عليها التعب والإرهاق، تتوافق تلك المشاعر التي تطغى في اللوحة والرمز المتمثل في كتاب يظهر بداخل بطن السيدة العذراء مع العنوان الذي اختاره تاركوفسكي لفيلمه، فهو حنين يعاني منه أبطاله إلى أشياء صعبة المنال كالخلاص النهائي، وكإشارة أيضًا لمولد المُبشر والمُخلص الذي يملك الكلمة؛ كلمة التغيير والفصل ولذلك ف نوستاليجا يبدو بمثابة رسالة خلاص أولوية تتجلى بعبور البطل بالشمعة، الوهج والنور إلى الطرف الآخر من البِركة...


أما عن المرة الثانية لظهور العذراء فكانت في لوحة دافنشي التي تُظهر العذراء وبجانبها صغيرها، مُخلص البشرية في الفيلم الأخير لتاركوفسكي "تضحية" 

فإن كانت الإشارة الأولى في فيلم "نوستاليجا"  هي تبشير عن قدوم النور متمثلًا في المسيح إلى العالم فإن الظهور الثاني هو بمثابة الخلاص النهائي للبشرية بظهور المسيح، وعليه فإن بطل فيلم تضحية يقدمُ قربانًا أخيرًا للرب ليخلص عالمه من الشرور التي اجتاحته، متبرءًا من شبح الحضارة الإنسانية وزيفها تاركًا رسالة أخيرة للبشر وهي أن يؤمنوا بالمعجزة؛ شجرة جافة لا تنمو ولكن يجب على المرء ريها دومًا والإيمان بأنها ستثمر يومًا ما، وكان ذلك حلمًا كيشوتيًا آخرًا من قِبل تاركوفسكي.




تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. من أجمل ما قرأت عن الربط بين السينما وفن الرسم

    ردحذف
    الردود
    1. أتفق جدا مع حضرتك ، أستاذ حسن كتاباته رائعة وأسلوبه سلس وجميل ، وعنده ثقافة متنوعة جميلة

      حذف

إرسال تعليق