القائمة الرئيسية

الصفحات

السينما المستقلة كوثيقة تاريخية: عودة إلى سينما إبراهيم البطوط


في بيانهما المعنون بـ«نحو سينما ثالثة» الصادر في ستينيات القرن الماضي، صكّ الأرجنتينيان فرناندو سولاناس (Fernando Solanas) وأوكتافيو جيتينو (Octavio Getino) مبادئ السينما الثالثة، والتي يمكن أن نعرّفها اليوم بـ«السينما المستقلة». «مستقلة» لأن مبادئها الأساسية انطلقت من رفضٍ للسينما التجارية وسيطرة الاستديوهات الكبرى وشركات الإنتاج، من حيث الأفكار والموضوعات وطريقة طرحها، وقد رأى سولاناس وجيتينو أن المصطلح الأدق هو «سينما ثالثة» وليس «سينما العالم الثالث»؛ لأنها نوع من السينما ينطلق في جوهره من تمرد على السينما الأولى – سينما هوليوود – والسينما الثانية – سينما المؤلف – ليخلق صوته الخاص، عبر «موقف أيديولوجي واضح»، وهو أهم مبدأ من مبادئ ما عُرف بـ«السينما الثالثة». أيضًا رأى الأرجنتينيان أن السينما التوثيقية/التسجيلية هي أقرب لمفهوم السينما الثالثة؛ لأن السينما التسجيلية هي الأقرب للحقيقة، وبالتالي الأقرب للنقاش وأن تكون فاعلة، خاصة لهؤلاء من ليس لهم صوت.


السينما المستقلة في دول العالم الثالث ومصر


من هنا عُرفت السينما التسجيلية بسينما الحقيقة – وهو المصطلح الذي انتشر في السبعينيات – واكتسبت أبعادًا جديدة بعد أن قد تم إعلان موتها مبكرًا، خاصة بعد دخول السينما الناطقة، لتعود في الستينيات – ومن قبلها بعد الحرب العالمية الثانية – كضرورة وحاجة ملحّة من أجل التوثيق، بعد أن اكتسبت رونقًا جديدًا نابعًا من الإيمان بلغة السينما وإمكاناتها. وهو ما نراه في سينما جان لوك جودار (Jean Luc Godard) مثلًا، في مزجه بين الروائي والتسجيلي؛ بما يعطي طابعًا خاصًا للفيلم، حيث يتماهى الواقع مع الخيال حتى الوصول إلى صعوبة التفريق بينهما.


ورجوعًا إلى المفاهيم الأساسية التي صكت مبادئ «السينما المستقلة»، وجد غالبية صناع الأفلام، خاصة في دول العالم الثالث، أن صنع فيلم مستقل «حر» في شكل روائي هو أمر ليس بهيّن، خاصة مع تكلفة إنتاج الأفلام العالية، وشروط النجوم، والتدخلات الكثيرة في العمل الفني. لذلك لم يجد هؤلاء إلا السينما التسجيلية كخير معبّر عن حرية المبدع. لذلك نجد في مصر مثلًا، رغم تاريخها الحافل في صناعة السينما، أنه لم يوجد قبل الألفية الجديدة إلا قلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من الأفلام الروائية التي يمكن وصفها بأنها «مستقلة خالصة». لكن على الجانب الآخر نجد عددًا لا بأس به من الأفلام التسجيلية التي يمكن وصفها بذلك، وهو ما نجده في سينما عطيات الأبنودي وهاشم النحاس، على سبيل المثال. وللأسف لم تتجاوز السينما التسجيلية أكثر من ذلك؛ فأخذت تتراجع شيئًا فشيئًا ويقلّ مريدوها، خاصة مع اقترابها من الألفية الجديدة وظهور «موجة المضحكين الجدد» ومفهوم «السينما النظيفة» النابع من مخلفات السبعينيات.




إبراهيم البطوط مؤسسًا للتيار


لكل تلك الأسباب، وأكثر، كان إبراهيم البطوط مجددًا، وله فضل كبير على السينما المصرية المستقلة، والتي يعرّفها الجمهور اليوم بـ«أفلام المهرجانات». لكن هل سارت تلك الأفلام على خطى البطوط، والتي عُدّت مؤسِسة لتيار جديد حقًا؟ أظن أن الإجابة «لا»، بكل تأكيد. ولهذا فغالبية تلك الأفلام هي عبارة عن «مسوخ»، مشوّهة ومكررة. يرجع ذلك ربما إلى الفكرة القديمة التي تقول بأن كل فن هو بالضرورة معبّر عن خالقه، خلفيته، نشأته، ثقافته وتاريخه. كل تلك العوامل تواجدت في البطوط، لكنها وللأسف لم تكن في من تبعوه. يُستثنى منهم المخرج «أحمد عبد الله السيد»، التي تعد تجربته ثرية إلى حد كبير، وربما تفوق على البطوط نفسه في مواضع كثيرة. وبالعودة إلى خلفية البطوط، فلقد عمل مصورًا حربيًا لمدة تصل إلى 17 عامًا! شهد خلالها حروبًا مريرة، وتجارب عصيّة على النسيان. وهذا واضح في سينماه، تلك العيون التي تلتقط الواقع بصدق، بألفة، لا تراقبه، ولا هي متتبعة له بغرض التلصص أو الإدانة، إنما بتأمل، يمكن وصفه بـ«تأمل مهذّب»، يحاول الفهم والتفكيك للنبش عن الحلول. ولذلك كانت سينما البطوط سينما إنسانية خالصة، رغم بدائيتها أحيانًا، لكن شغلها الشاغل كان الاهتمام بالآخر، ورصد معاناته بصدق، ببساطة لأنها عايشت تلك المعاناة.






سينما مستقلة في شكل روائي!


بالعودة لفيلم البطوط الثاني «عين شمس» والصادر عام 2009، يمكن التقاط ما أسّس له البطوط بحرفية عالية، وهو ما نلحظه في جميع تجاربه التالية، سمات مشتركة لا يحيد عنها، منطلق من مبدأ راسخ، وهو عدم التنازل. يُلحظ ذلك في حيثيات صنع فيلمه «عين شمس»، فهو الفيلم الذي صُوّر بكاميرا ديجيتال رقمية ولم يأخذ تصريح الرقابة، ليفاجئ الجمهور بعرضه في الخارج، فيما صرّح البطوط بعده قائلًا:


«قدّمت لي شركات إنتاج عدة أكثر من عرض، من دون ذكر أسماء، لكني رفضت لأنني أريد صناعة أفلام لها طبيعة خاصة لن ترضى بها تلك الشركات، كذلك أريد أن أكون حرًا تمامًا في ما أخرجه وأكتبه، وبعد ذلك أفكر في الدعم المادي أو التوزيع، وهذا ما حدث فعلًا في “عين شمس”. فلماذا أتنازل الآن بعدما نجحت في تحقيق مرادي؟ وكما قلت سابقًا، السينما التجارية لا تستهويني إطلاقًا، لكن لن تكون لدي مشكلة معها إذا سمحت لي بعرض أفكاري كما أريدها».


«واضح كطلقة مسدس» وكذلك كانت سينماه. وفي «عين شمس»، كتجاربه التالية، يستعرض البطوط «حالة إنسانية» وهي الفتاة شمس المصابة بالسرطان، ليقدم من خلالها مشكلة اجتماعية في تلك الفترة الحرجة، لها جذور سياسية بالطبع. وفي الفيلم نرى هذا التماهي شديد الصدق بين الروائي والتسجيلي. فمشهد مثل مشهد الفرح الذي يحضره «سليم بيه» في «عين شمس»، هو مشهد واقعي مائة بالمائة، ولكن بكل سلاسة يتم تضمينه لدعم طابع الفيلم الروائي. هنا تجلّت حرية البطوط، عبر اتخاذ قراراته بنفسه، لصنع هجين جديد نابع من استغلال حرية «التسجيلي» وإعادة تضمينه بحساسية شديدة ليلائم الموضوع، حتى وإن بدا غريبًا على السينما المصرية.


سمات مشتركة في سينما البطوط: التوثيق الشخصي كمبدأ


ذلك «التضمين» للتسجيلي لا نراه فقط في «عين شمس»، بل نراه في فيلم البطوط التالي «حاوي» الصادر عام 2010، وفي فيلم «الشتا اللي فات» الصادر عام 2013. وهو تضمين موفق في كل مرة. نراه مثلًا في «حاوي»، الذي تجري أحداثه في مدينة الإسكندرية، عبر عدة قصص متداخلة: عن فنان يريد التعبير عن نفسه بأغنية، وأب عائد من المنفى يرجو مسامحة ابنته له (يقوم بدور الأب البطوط نفسه)، وعن سائق كارو يأمل شفاء حصانه العليل. مجموعة قصص متداخلة صنعها البطوط، استوحاها من أغنية مسار إجباري «حاوي» عند استماعه لها، وهي أغنية تتحدث عن «الحيلة» التي يستخدمها المواطن المصري كميكانيزم دفاعي لكي يستطيع العيش رغم قسوة الحياة اليومية. ونبوغ من البطوط أن يختار مدينة الإسكندرية كمكان لصراع بتلك القسوة؛ فهو بذلك يكسر في وقت مبكر تلك الصورة النمطية – الرومانسية – لمدينة الإسكندرية.


يتضح أيضًا ريادة البطوط في استعانته بفرق الموسيقى المستقلة/الأندر جراوند، ومعبرًا عن مشاكلهم؛ فهو الأول هنا في استعانته بفرقة مسار إجباري، معبّرًا عنهم بـ«هاني الدقاق»، والذي نراه متحدثًا إلى الكاميرا مرات عديدة، مرة بعين توثيقية، وأخرى روائية. والمفاجأة هي استعانته بنجم خافت قادم من التسعينات، وهو «فادي إسكندر»، والذي نراه بصحبة إبراهيم «البطوط» بطل الفيلم، وبصحبة الدقاق، موجهًا النصائح له، كما يضمنه البطوط في خط الفيلم الروائي الموازي لخطه التوثيقي، عن أزمة صناع الموسيقى المستقلين. وهي سابقة نادرة جدًا أن تحدث في السينما المصرية. نعم، «مجرد الالتفات لنجم خافت» كان ظاهرة. أيضًا نراه في «عين شمس» في استعانته بالمغنية «مريم صالح» والتي تظهر في كل من البداية والنهاية، ليخترق صوتها تترات الفيلم في النهاية مع أغنية سيد درويش بتصرّف «يا عزيز عيني»؛ وهي أغنية ترثي حال الوطن ومعاناة شبابه وقلة حيلته.

نرى امتدادًا لذلك التوثيق أيضًا في الفيلم التالي للبطوط «الشتا اللي فات». فنرى عمرو، بطل الفيلم «عمرو واكد»، يستمع إلى اعتراف مسجل من قبل إحدى الصحفيات اللواتي تعرضن للتعذيب على أيدي النظام. المفاجأة أن صاحب الصوت هو أخو «إبراهيم البطوط» في الحقيقة، يُظهر ذلك ولعًا عند البطوط بتوثيق ما هو شخصي وواقعي، مهما كان قاسيًا. وهو ما نلحظ وجوده منذ فيلمه الأول، وأقل أفلامه شهرة، «إيثاكي» الصادر عام 2005. فنرى أحمد كمال يقوم بدور مخرج أفلام تسجيلية، ونتابع رحلته ومحاولاته لصنع فيلمه. وبالطبع فذلك المخرج أتى ممثلًا للبطوط نفسه وهواجسه، وبدون اعتداد بالذات؛ هي مجرد نظرة متفحصة ومراقبة لها من الخارج، ربما حتى ناقدة أكثر.


وكما يظهر في الفيلم سمات مؤسسة لسينما البطوط، فهو يتخلى عن أخرى بالمثل فيما بعد. ففي «إيثاكي» يقترب البطوط من الواقعية الشعرية في المزج بين الحقيقة والأسطورة، وتحضر الأسطورة ممثلة في المزج بين حكاية عوليس، المحكية بصوت الراوي، وبين خط الفيلم الرئيسي، الذي يتناول حكاية العائد إلى وطنه، رغبة في اكتشاف أحوال شخوصه الحائرين. أيضًا يظهر في الفيلم الميل لعرض الأزمات الوجودية، وتلك يتخلى عنها البطوط فيما بعد، متجهًا أكثر لعرض وتشريح ما هو سياسي واجتماعي.


لا ينفك البطوط عن طرح المشاكل الاجتماعية بعد ذلك. ففي «عين شمس» نرى طرحًا لأزمات مثل «إنفلونزا الطيور» و«الأغذية المسرطنة والمياه الملوثة»، وفي فيلم «القط» يطرح مشكلة «بيع الأعضاء» ويخلق مقاربة بينها وبين تجارة الآثار، كما يشترك الفقر في كونه بطلًا لكل حكاياته.

ولا يمكن تجاهل الجانب السياسي من أفلام البطوط، وهو متجلٍّ بشدة في فيلم «الشتا اللي فات». فالسلطة في الفيلم ممثلة في ضابط أمن الدولة، الذي يقوم بدوره الممثل «صلاح حفني»، وهي سلطة غاشمة لا تتوانى عن الإيذاء مقابل رغباتها وما تؤمن به. ومثير للانتباه أن يقوم «صلاح حفني» بدور آخر معبرًا عن تلك السلطة، تلك المرة في دور رئيس عصابة تاجر الأعضاء في فيلم «القط». وربما هنا كانت أزمة البطوط، وهي ما جعلت من سينماه تبدو بدائية قليلًا: اللجوء إلى الصور والجمل النمطية لتقديم تلك الشخصيات؛ فلا تعبّر تلك الشخصيات بدورها إلا عن جانب واحد فقط، ميلودرامي، مكررة جملًا كليشيهية إلى حد كبير. كان من الممكن تجاوزها والوصول إلى شكل «أفضل بكثير». لكن بالطبع فذلك يرجع إلى خلفية البطوط، ورغبته في المقام الأول في «التوثيق»، وهو بالنسبة له الأهم من أي شيء. وهو ما يذهب بنا إلى سؤال آخر: هل يمكن أن تُعد السينما كوثيقة تاريخية؟ في الغالب يميل المنظّرون إلى الإجابة بلا؛ فالسينما كفن يجب أن يذهب أبعد من ذلك بكثير، والتوثيق هو الأقرب للصحافة، وليس السينما. ولذلك عُدّ أسلوب البطوط بدائيًا في أحيان كثيرة، ولكن بالطبع لا يمكن حصره في ذلك الإطار.


البطوط والغوص في أعماق المدينة: ماذا عن بطل مُتخيَّل؟


في فيلم «عين شمس» تحلم الطفلة شمس بعالم مثالي متخيّل، جنة مستقرّها هو وسط المدينة في القاهرة، حيث تصوّره الفتاة بصفته مكانًا يُوزع فيه الآيس كريم بالمجان! وهو مكان لا مثيل له بالنسبة لها، لذا تكرر تمني زيارته. تخبر المعلمة أم شمس بأن شمس «خيالها واسع» ويجب أن تُحجّم عن التخيل. فيما يرى الشاب «عمرو» أن الحمام الذي يربيه لم يعد يحبذ الطيران. تُصاب شمس بالسرطان، ويصاب عمرو بالاكتئاب، ويصاب زجاج رمضان بالسرطان، فيتهشم. كل ذلك هو مجاز لمدينة يتفشى فيها السرطان بعنف. مدينة تتآكل ببطء كما تتآكل شمس، ويذوب حلمها شيئًا فشيئًا. وهي نفسها الصورة لمدينة الإسكندرية في فيلم «حاوي»، مدينة تتداعى كما يتداعى أبطالها، في مقاربة بينهم وبين الحصان العليل «درغام». إذن، المدينة عند البطوط هي مدينة متهالكة، تتداعى وتفقد قوتها بالتدريج، فلا يبقى منها سوى القبح.


بالتالي تكون المدينة في فيلم «القط» هي محطة البطوط الأخيرة. رغم كل ما في الفيلم من عيوب، أبرزها السرد المفكك وطغيان الرمزية، إلا أنه متمم مثالي لرؤية البطوط. المدينة في «القط» متداعية منذ اللحظة الأولى. ففي «الأفان تتر – Avant-Titre» يظهر الرجل الغامض «فاروق الفيشاوي»، وهو يعلو أنقاض معبد متهدم غمرته المياه. الموضوع محسوم منذ اللحظة الأولى: نحن في بطن الحوت، حيث يمتزج الواقعي بالتاريخي. هذا ما يفسر اهتمام البطوط في ذلك الفيلم بالذات برصد العشوائيات، فهي المحطة الأخيرة للمدينة المتداعية، حيث العنف هو الدافع الوحيد للاستمرارية.





هنا يخلق البطوط بطلًا متخيلًا، وهو «القط»، الذي يقوم بدوره عمرو واكد. ويبدو دور القط هنا معبرًا عن اللاوعي الجمعي المتخيل عند البطوط. فهو لا وعي لا يتصوره البطوط إلا انتقاميًا، عنيفًا، لا يتوانى عن سفك الدماء من أولئك الذين سلبوا منه الحياة. فابنة القط مختطفة ولا تعود، وأطفال الشوارع يتم سلب أعضائهم والمتاجرة فيها. دلالات كثيرة تشير إلى فقدان الماضي والحاضر معًا؛ فتجارة الآثار التي يتم الإشارة لها بشكل عابر في الفيلم يجعلها البطوط امتدادًا لتجارة الأعضاء، وهنا تكون حلقة الوصل، في إدانة واضحة للمسكوت عنه.

في المقابل، يظهر الإحباط الكبير عند البطوط. فشخصية الرجل الغامض تلك تبدو أنها لا تُهزم. هي شخصية ميتافيزيقية إلى حد بعيد. ولذلك، رغم انتصار القط على زعيم عصابة تجارة الأعضاء، إلا أنه يجد نفسه أمام قوى أكبر، متجاوزة القوى البشرية، وكأن الهزيمة أمر محتوم لا فكاك منه. فهو صراع أشمل: ضد القدر، والحتمية التاريخية نفسها، والتي توجب الهزيمة.


- نشرت المقالة بموقع فاصلة السينمائي بتاريخ 16 نوفمبر 2025

author-img
يدرس السيناريو بالمعهد العالي للسينما وعضو جمعية نقاد السينما المصريين، التابعة للفيبريسي (الاتحاد الدولي لنقاد السينما). كتب لدى العديد من المواقع والمجلات العربية، عمل ضمن فريق مهرجان القاهرة السينمائي، مهتم بالسينما، تاريخها، وعلاقتها بباقي الفنون.

تعليقات