القائمة الرئيسية

الصفحات

بحب السيما: صندوق باندورا السحري



أنتمي لجيل z، الذي عُد بمثابة نذير شؤم على صناعة السينما المصرية، حيث رافق سنين نشأته ما عرف بتيار "السينما النظيفة" وبذلك أصبح جيلي في النهاية هو جيل السينما النظيفة، المخلص لها وراعيها المستقبلي، والذي رغم "روشنته" وحداثته، فقد اقترن بالضرورة بما هو محافظ ومستهلك. بالتالي مفهوم جدًا كيف من الممكن أن أتلقى فيلمًا مثل "بحب السيما" في سنين تكويني ومراهقتي! بالتأكيد هو عمل فاضح وقتها، لجرأته، فهو لا يختلف مثلًا عن كليب روبي "طب ليه بيداري كده" الذي هوجم بشدة حين ظهوره، ومصادفة، فقد صدرا في العام "2004" نفسه، ولذلك كان رد فعلي واحدًا حين عرض أي منهما على شاشة التلفزيون، أغير القناة إن سمعت صوت أٌقدام آتية من بعيد خشية الفضيحة، تبعًا لذلك ظل الفيلم بمثابة صندوق باندورا بالنسبة لي، أخاف التعرض له خشية معرفة ما يحتويه. لم يخب ظني، فلقد ظل الفيلم – مشاهدة تلو أخرى مع مرور السنين – يحمل إلي جديدًا في كل مرة، ولكن على النقيض من صندوق باندورا، فبدل الشرور التي خرجت منه، كان "بحب السيما" لا ينفك عن تقديم كل جديد ومدهش لي، ومع قليل من الوعي، اكتسب الفيلم معانٍ وأبعادًا جديدة مع كل مشاهدة. من هنا نبعت أهميته، وفرادته.


يرصد الفيلم حقبة الستينات، تحديدًا عام 1966، وهو العام الذي سبق النكسة، وفي فن السيناريو لا يوجد ما هو عارض أو مصادفة، ولذلك فاختيار زمن الفيلم لم يكن مجرد رغبة بالعودة إلى زمن ماضٍ، ولا يمكن اقتصاره على أنه مجرد اختيار جمالي، الاختيار هنا هو مدخل لا فكاك منه للفيلم.


يبدأ الفيلم بصوت الراوي، والراوي هنا هو راوٍ عليم، متمثل في الطفل الذي يحكي من الذاكرة أحداثًا مر عليها ما يقارب ثلاثين عامًا، والطفل سواء في الأدب أو السينما هو وسيلة لحكي شاعري، أي حكي منقوص ومفكك، مفتقد لحكمة الكبار ونظرتهم "السوية" للأمور، وهو ما يتجلى مثلًا في طفل محمد شكري في رواية "الخبز الحافي" حيث يتصور الطفل أن الجنس هو ألم، ويرى الموت وكأنه نوم مؤقت، من هنا تنبع شاعرية السرد، من تلك الرؤية غير المكتملة للأمور. بعد المشاهد التأسيسية في الفيلم لكل من الحقبة، الحي، العائلة، تكون الجملة الحوارية الأولى من نصيب نعمات، فتوجه كلامها إلى نعيم الذي يقف معطيًا لها ظهره بينما تستحم وهو يحاول استراق النظر "شايفاك.. أوعى تبص". هنا مدخل آخر عن موضوع الفيلم وتيمته. إذن فالفيلم يدور حول "المُحرّم" حول الممنوع والمرغوب، وبطلنا نعيم، هو الطفل الفضولي الساعي للفهم واكتشاف العالم من حوله، وهو الذي يحب السيما ومتيم حد الذوبان بها.

عند الحديث عن الأفلام التي تناولت السينما وحبها دومًا ما يذكر الأصدقاء فيلم "سينما باراديسو" لتورناتوري، فيما يذكر النخبوي منهم فيلم "وداعًا حانة التنين" لتساي مينج، أما أنا فأقول دومًا "بحب السيما أجدع منهم". أجدع هنا لا تنتمي لذلك النوع من المقارنات المفرغة، ولا أعتبرها بمثابة صيغة تفضيل، هي لفظة مصرية تمامًا، يومية ومتداولة، ولذلك أختار وصف الفيلم بها، لأن فيه ما هو أكثر من السينما، رغم أنه يحتفي بها احتفاء صادق وأصيل، إلا أنه لا يخلو من نقد سياسي واجتماعي، وحتى وجودي، موجهًا إياه لزمن مضى، وحقبة مفصلية وخاصة جدًا في تاريخ الدولة المصرية الحديثة.

نرى عدلي رب الأسرة في ظهوره الأول وهو يرهب نعيم، بينما تظهر لديه ميول تطهرية نابعة من خلفيته المسيحية الأرثوذكسية، نلحظ هوسًا عند عدلي بفكرة الجنة والنار، الثواب والعقاب، أسماء الأسرة نفسها، نعمات، نعمة، نعيم، ذلك الهوس يتجلى في شخصية عدلي عند سؤاله عن معنى اسم نعيم فيجيب، لأن النعيم هو السماء، الجنة، هذا هو حلم عدلي المفتقد، وذلك هو محركه على مدار الأحداث، وبالرجوع لزمن الفيلم، والذي نلحظ أن الجرائد، الراديو يغطيانه على مدار الحكاية في الخلفية، فيما يظهر صوت الرئيس جمال عبد الناصر مرارًا عن طريق الراديو، نجد تماهيًا بين كل من عدلي وعبد الناصر، وكأنهما رفيقا درب وكفاح، حيث يتمثل ذلك في نزعة عدلي المثالية ;تطلعه للعفو الإلهي والنعيم، محاولته مساعدة الطلبة الفقراء والذي يشير إليه نعيم الراوي فيقول " كانت كل فلوسه رايحة ع الطلبة الفقرا، لحد ما قربنا نبقى زيهم"، أيضًا خناقته مع الناظر "الحرامي"، وفيما بعد رفض دفع رشوة للتمرجي أثناء مرض نعيم، كل ذلك هو ما يؤكد على مثالية عدلي، وسذاجته أيضّا، وهو نفسه الذي رغم كل ذلك لم يخلو من نزعة سلطوية طالت أسرته، وشعور بالذنب دومًا ما يهدد راحته.






 تلك كانت يوتوبيا عدلي، تحقيق الكمال، والذي لم يختلف عن اشتراكية عبد الناصر وحلمه العربي، فيما كانت يوتوبيا نعيم أبسط من كل ذلك، يوتوبيا نعيم كانت السينما، ولذلك فعند زيارتها لأول مرة، يصورها كجنة، ويصف تذكرتها بصك الغفران، وهي رؤية غاية في الشاعرية للسينما، كملاذ، ليس أرضيًا، بل أبدي متجاوز ما هو مادي، كالحلم الرقيق، وهو ما يطغي حتى على ألوان المشهد فنراها تميل للأبيض، على عكس باليتة الفيلم الصفراء على مدار الحكاية، والتي تشير بنعومة إلى زمن حميمي مضى. 


في الفيلم مشهد كاريكاتوري، وهو عند ذهاب نعيم للطبيب، حيث نسمع نعيم يحكي بصوت الراوي العليم " طول عمري بكره الدكاترة، مش الدكاترة وبس، لكن كل اللي بيتحكموا فينا وف حياتنا بحجة أنهم عارفين مصلحتنا أكتر مننا"، في مشهد آخر يسأل عدلي نعمات: انتي صليتي النهارده؟ ويبدأ بلومها عند إجابتها بالنفي، فيما نرى معلم نعمة (أخت عدلي الكبرى) في المدرسة بينما يتفنن في في شرح وتفصيل آليات عقابه للطلبة، هنا مفتاح آخر للفيلم، وهو السلطة والعقاب. فنجد أن السلطة المجتمعية، لا تختلف عن السلطة الدينية، لا يختلفان عن نظيرتهما السياسية، وهي التي ظهرت في الفيلم بشكل أقل، ربما خفي تمامًا، لكنها الأهم، ولذلك عد الفيلم جريئًا في خطابه كاسرًا لكل التابوهات، التي للأسف يتم اختزالها في مشاهد عارية وجنسية عابرة على استحياء. وكعادة أسامة فوزي، من خلال فيلميه اللذان سبقا بحب السيما وهما "عفاريت الأسفلت" و "جنة الشياطين" فإن أسامة يتضح اهتمامه بمنظومة الأسرة، تفكيكها وإعادة النظر في قيمها، وحقيقة إيمان الأسرة بتلك القيم، وهو ما يتجلى هنا في أسرة عدلي ونعمات، حيث نرى المناوشات والكذب والتلفيق، حتى الخيانة، وعند فوزي دومًا ما كان الممنوع مرغوبًا، جنة مفتقدة، ذلك ما يفسر مرض نعيم عند رفض عدلي ذهابه للسينما، أي فكرة شاعرية تلك! أن يمرض المرء جراء شغفه الذي لم يحقق؟


يخبر الطبيب عدلي أنه مريض بالقلب، يذهب عدلي لرأس البر رفقة أسرته، متجاوزًا ما مضى، مبرئًا نفسه من عقدة الذنب التي دومًا ما طاردته، فيما يقرأ تصريح لعبد الناصر أمام البحر، مفاده أن وقت الرحيل مازال مبكرًا، بعدها، ولمرة أخيرة نرى عدلي يركب العجلة وأمامه نعيم في مشهد عند الغروب، حيث نسمع في الخلفية صوت عبد الناصر في خطاب التنحي بعد النكسة، فيما تغرب الشمس بينما عدلي يعدو بالعجلة ويظهر مرضه، وكأنها تعلن عن أفول عمر كل من عبد الناصر وعدلي بعد مسيرهما الطويل، ليموت عدلي بعد ذلك كما تمني، وهو يصلي، فيما ينتهي الفيلم بينما نعيم يضحك أمام التلفزيون أثناء موت جده، وكأنه إعلان لعصر جديد، لا يعلو فيه فوق صوت الضحك. 


- نُشر المقال ضمن كتاب " أفضل 25 فيلمًا مصريًا" وهو كتاب نتيجة تعاون بين مهرجان القاهرة السينمائي وجمعية نقاد السينما المصريين بالتعاون مع الفيبريسي، الكتاب صادر عن دار ريشة ومتاح على تطبيق أبجد، وصدر ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة الدولي السينمائي في دورته السادسة والأربعين، كما حصل فيلم "بحب السيما" على أكبر عدد أصوات ضمن قائمة أبرز 25 فيلمًا مصريًا في الربع قرن الأخير.

author-img
يدرس السيناريو بالمعهد العالي للسينما وعضو جمعية نقاد السينما المصريين، التابعة للفيبريسي (الاتحاد الدولي لنقاد السينما). كتب لدى العديد من المواقع والمجلات العربية، عمل ضمن فريق مهرجان القاهرة السينمائي، مهتم بالسينما، تاريخها، وعلاقتها بباقي الفنون.

تعليقات