القائمة الرئيسية

الصفحات

جريفيث: الأب الروحي للمونتاج بين التقنية والأيدولوجيا

 

من بين جميع رواد السينما الذين أدوا دورا أساسيا في تطوير اللغة السينمائية، لا سيما في البدايات، كان المخرج الأمريكي “دايفيد وارك غريفيث” (1875-1948) صاحب التأثير الأكبر.


فلقد استكشف بأعماله إمكانيات السينما التي لا حدود لها، وألهم بحرفيته الجيل الذي تلاه من صانعي الأفلام، كمخرجي المونتاج السوفياتي، حتى الأجيال اللاحقة وإلى يومنا هذا، لذلك من الطبيعي أن يشيد به المخرج الفرنسي “جان لوك غودار”، مع أنه أشد الناس مقتا لفكر “غريفيث”.

إذا رجعنا إلى ما بين عامي 1908-1914، نجد أن “غريفيث” قد أنتج نحو 500 فيلم قصير بالتعاون مع شركة “بيوغراف”، وهي شركة أمريكية حديثة التأسيس يومئذ. وفي عام 1915 حاول “غريفيث” أن يثبت بطرح فيلم “ولادة أمة” (The Birth of a Nation) أن السينما لم تعد مجرد وسيلة ترفيه، بل يمكن أن تحل محل الأدب للجمهور العادي. بل إن لها لغتها الخاصة بها، ويمكن كتابة التاريخ بالضوء والصورة، حتى لو كان بالتزوير، لأن الفيلم عُدّ أول عمل عنصري في تاريخ السينما، لكن الشركة رفضت أن تنتج أفلاما طويلة، بدعوى أنها لن تنجح، فأسس “غريفيث” مع صديق له شركة إنتاج صغيرة لإنتاج الفيلم.


“ولادة أمة”: فيلم غيّر ملامح السينما

جرّب “غريفيث” في فيلمه “ولادة أمة” مجموعة متنوعة من تقنيات سرد القصص، ثم في فيلم “عدم التسامح” (Intolerance) عام 1916 أيضا، فخلع عليه هواة السينما ألقابا عدة، منها أبو التقنية في السينما، والرجل الذي ابتكر هوليود، وأول مؤلف روائي للسينما، وشكسبير السينما، نظرا لتأثره بأدب العصور القديمة.

ومنذ اليوم الذي أنهى فيه “غريفيث” أهم أفلامه، أصبح مكانه في تاريخ الفن موضوع جدل كثير بين المهتمين بالسينما، وكانت مصداقيته محل نقاش نقدي أكثر من أي فنان كبير في تاريخ السينما.


كان الفيلم عنصريا، ويمكن تصنيفه عملا فاشيا، لكنه ظل شهادة على حقيقة أن السينما لا ينبغي اختزالها في موضوع أو عقيدة، بل في شكل العمل الذي يقيّمه ويديمه. فلقد أسهم “غريفيث” أكثر من غيره في إنشاء لغة سرد للسينما، بعد أن كانت من الناحية الجمالية مجرد أداة تسلية، لتصبح تعبيرا فنيا كاملا.





باب جديد للفيلم الروائي الطويل

فتح فيلم “ولادة أمة” بابا جديدا من السينما، وأصبح نقطة تحول في السينما الأمريكية والعالمية، مع أن الأفلام الروائية انتشرت في جميع أنحاء العالم قبل إنتاجه بعقدين على الأقل، لكن لم ينجز أحد على نطاق واسع هذا المستوى من الطموح المتمثل في “ولادة أمة”.

فلم يطور أحد منهم قوة السينما، ولم يستطع أن يدرك أن مستقبل السينما هو الأفلام الروائية. كان ذلك في وقت كانت فيه معظم الأفلام لا تجاوز 20 دقيقة إلا قليلا.


الابتكارات التقنية في “ولادة أمة”

اعتمادا على إحساس سردي قوي ورؤية ملحمية، أصبح الفيلم أول فيلم ضخم في هوليود والسينما، وكانت أول مرة التي تُبتكر فيها خاصية التقريب والتجميع (Close-up)، وتستخدم بتلك الدقة والوعي، وذلك عندما أراد “غريفيث” إظهار حزن الشخصية الرئيسية، فجعل الكاميرا أقرب إلى الوجه، وبهذا استخدم التقريب أول مرة، ولم يسبقه إليه أحد.

لكن لسوء الحظ، وبعيدا عن القوة التقنية، شاب الفيلم تحيز مزعج وعنصرية غير مألوفة، وكان يجب أن يكون الجمهور على دراية بمحتواه وهدفه، ولذلك أصبح من أهم الأفلام التي غيّرت المواقف تجاه السينما، لا سيما لدى أولئك الذين رأوها هواية فجة ترفيهية، فلقد أدركوا بعد صدور الفيلم أهمية الوسط السينمائي وخطورته.

“عدم التسامح”: الرسالة النقيضة

بعد فيلم “ولادة أمة” بسنة، أبهر “غريفيث” العالم بفيلم روائي ثانٍ، مناقض لفيلمه “ولادة أمة”، بعد أن انتُقد بشدة ووُصم بالعنصرية، فهو يمجد أفراد أمريكا البيض ويذم السود المجرمين، ويرى أنهم السبب في الحرب الأهلية آنذاك.

صدر فيلم “عدم التسامح” (Intolerance) عام 1916، وربما يكون رسالة اعتذار أحس أنه مدين بتقديمها، فنراه يرصد تبعيات عدم التسامح ونبذ الحب في 4 حقب مختلفة، تمثلت في 3 أحداث فارقة في التاريخ؛ هي سقوط بابل القديمة، وصلب المسيح، ومذبحة القديس بارثولوميو خلال عصر النهضة، وكان الأول حدثا معاصرا متمثلا في شاب محكوم عليه بالإعدام بتهمة قتل رفيقه.


ولم يكتفِ “غريفيث” بتقديم 4 أحداث فقط بشكل متواتر، بل اعتمد على تقنية جديدة كليا في السرد، وهي السرد المتقطع غير الخطي، فينتقل بسهولة بين الأزمنة، جاعلا الأحداث كأنما تدور كلها في زمن واحد، كأن التاريخ كله لحظة آنية يعاني فيها الإنسان تبعات عدم تسامحه مع الآخر، ويرصد بنفسه آثار كراهيته لكل مختلف عنه.

كما أضاف “غريفيث” أيضا مشهدا متكررا منفصلا عن الأزمنة المذكورة، يعرض أما تهز سرير طفلها الصغير، ويقطع هذا المشهد الأحداث والأزمنة في كل مرة، فيصبح التاريخ نفسه متمثلا في أم ترعى طفلها الصغير، الذي يرمز إلى الإنسانية، فتكون الأم شاهدة على نمو طفلها، بالتوازي مع مسار التاريخ.

وقد ميز كل حقبة عن الأخرى بلون مختلف، وطوّع الألوان في خدمة سرديته، لينتقل بسلاسة بين الأزمنة، مع المحافظة على تصاعدها تدريجيا بالتوازي، لينجح في الأخير في تقديم رسالته، وهي أهمية التسامح والحب ضرورةً ليعمّ العالم السلام.


تأثير “عدم التسامح” وعبقرية السرد

يُشهد لـ”غريفيث” بقدرته الفذة في محافظته على وحدة موضوعه، لكن ما يعيب فيلم “عدم التسامح” هو وعظيته المباشرة ومثاليته المبالغ فيها، أما على المستوى التقني فقد بلغ حدا رائعا من الإتقان.


ونرى التأثر الواضح بعمله متمثلا في فيلم “المدرعة بوتمكين” (Battleship Potemkin) للمخرج “سيرغي آيزنشتاين”، لا سيما مشهد سلالم أوديسا، وتقريب الوجوه المذعورة، واللقطات الواسعة، والتحريك المتقن لمجاميع الممثلين.

كل هذا كان لـ”غريفيث” السبق في رصده والتقاطه، فلقد ذهب بما قدمه في هذين الفيلمين إلى ما هو أبعد من القاموس المعتاد في عصره، مع أنه لم يكن يعرف الكثير عن ابتكاراته، على الأقل في صناعة هذه الأفلام.

فلقد كانت ابتكاراته مجرد نتائج غير مصاغة لمشكلات حلها في سياق العمل، وليست نظريات مجردة، ولطالما كانت أساليب عمله في هذه العملية بديهية وتجريبية لا ممنهجة، نظرا لكونها مبكرة.


التأثير الاجتماعي والانتشار العالمي

حظيت أفلام “غريفيث” بشعبية كبيرة لدى مشاهدي السينما يومئذ، وقلدها كثير من صانعي الأفلام الآخرين، وانطبق ذلك أيضا على أساليب الإنتاج.


ما من شك أيضا في أنه فيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي، فإن السمعة الجيدة أو السيئة لفيلميه “عدم التسامح” و”ولادة أمة” قد غيرت الطريقة التي ينظر بها الجميع إلى السينما، من رسامي الرسوم المتحركة إلى السياسيين الوطنيين والاقتصاديين في وول ستريت.


تناقضات شخصية وفنية

لا شك أن غريفيث كان عبقريا في السينما الروائية، وكانت الرواية مصدر إلهامه، لكنه كان أيضا ريفيا ورومانسيا، فمع أنه يتظاهر بالثقافة والمعرفة، فقد كان يميل دائما إلى أن يكون عاطفيا وميلودراميا، وهو ما يتضح في سينماه. ولقد كان عنصريا متعصبا رأى التاريخ البشري في شكل ميلودراما بالأبيض والأسود من القرن التاسع عشر.

المثير للتناقض هو أن إنسان القرن التاسع عشر ذلك، قد وضع الأساس لشكل فني من القرن العشرين، وهذا الخلط بين العصور تسبب في ارتباك في ذوقه وحكمه. ويمكن رؤية كل هذا في أفلامه.

وكان لديه تناقض آخر أصعب قليلا في تفسيره، يعود إلى طبيعة فن السينما، فقد كانت له عبقرية تقنية سينمائية، تنافت مع ضحالة عمق أعماله، ويرجع ذلك إلى أنه لم يكن مفكرا كبيرا، بقدر ما كان بارعا في خلق التقنية.


جنون العظمة وأفول المكانة

كانت شهرة “غريفيث” بعد “ولادة أمة” كبيرة جدا، لدرجة أنها خلقت نوعا من جنون العظمة الذي شوّه حكمته، فعندما وجد نفسه في منصب نبي وفيلسوف سينمائي، لم يعد يرى نفسه فنانا عظيما فحسب.

الإرث السينمائي والخلود

من ناحية أخرى، حقق إنجازا كبيرا في وقت قصير جدا، ولأنه لم يكن لديه الكثير من الثروة العلمية، فلم يستطع تحقيق التوازن مع تأثيرات أعماله أو شخصيته، وهذه الخسائر -على خطورتها- إنما كانت بسبب قدرته المحدودة. المفارقة هي أن أعظم إنجازاته، كانت قادرة على تجاوز تأثيرات إلهاماته وأحكامه وأذواقه، فأصبح أحد أعظم فناني القرن العشرين والسينما.


لذلك يمكن القول إنه أظهر عبقرية متفردة في تلك الحقبة من تاريخ السينما، فهو الرجل الذي اكتشف وطوّع واستخدم لغة السينما السردية، ولا يزال يُحتفظ بهيبتها، ولا تزال الحلول التي وجدها للهيكل السينمائي مستخدمة لدى معظم المخرجين.

ومع ذلك، لم تكن إنجازاته ممنهجة وتحليلية أساسا، بل كانت مبتكرة وبديهية، وعندما بلغ عصر الابتكار نهايته، ولم يعد الحدس والارتجال يؤديان دورا حيويا في صناعة الأفلام، أُلقي بـ”غريفيث” في عالم الماضي، وأصبح مجرد مرجع لزمنه.


وفي زمانه مع المثقفين، لم تكن له مكانة قوية، عندما ظهرت مثلا عبقرية الألمان، مستخدمين سلاح حركتهم التعبيرية، التي انطلقت آنذاك من الرسم والتصوير وفن المعمار، ونقلت كل ذلك إلى عالم السينما.


- نشرت المقالة بموقع الجزيرة الوثائقية، بتاريخ 24 أغسطس لعام 2025

author-img
يدرس السيناريو بالمعهد العالي للسينما وعضو جمعية نقاد السينما المصريين، التابعة للفيبريسي (الاتحاد الدولي لنقاد السينما). كتب لدى العديد من المواقع والمجلات العربية، عمل ضمن فريق مهرجان القاهرة السينمائي، مهتم بالسينما، تاريخها، وعلاقتها بباقي الفنون.

تعليقات