القائمة الرئيسية

الصفحات

السينما الاسكندنافية: تيار مغاير بين الطبيعة والميتافيزيقيا



في نهايات القرن التاسع عشر نالت الدول الاسكندنافية نصيبها من العروض السينمائية كغيرها من دول أوروبا، حيث قُدمت لهم أفلام كل من الأخوين لوميير والأخوين سكلادانوفسكي، في كل من النرويج والدنمارك والسويد ومن ثم فنلندا. وانتهت تلك العروض بإلهام المصوّر الفنلندي كارل إميل ستالبرغ بإنشاء أول دار عرض سينمائية في فنلندا عام 1904 باسم

(Världen Runt) بالانجليزية (Around the world) ليكون أول فيلم فنلندي بعدها في العام 1907 هو فيلم "الخارجون عن القانون – Salaviinanpolttajat " من إخراج ستالبرغ، ليبدأ بعدها ولعدة سنين مشاريع سينمائية أخرى في السينما الفنلندية كان نصفها من إنتاج ستالبرغ.

أما عن كل من السويدي (ديفيد فرناندزو) والنرويجي (رسموس هالست)، فقد أسسا شركة إنتاج مشتركة باسم (Bioscop-Film) أنتجت ما يقارب الخمسين فيلمًا. وكما هو معروف، فقد كانت فنلندا تابعة لروسيا قبل الحرب العالمية الأولى، وبالتالي كان لروسيا السلطة في منع كل النشاط السينمائي حينها، لكن انتهى ذلك المنع بعد الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، بعد إعلان فنلندا استقلالها، لتكون لفنلندا الحرية في صناعة السينما. جدير بالذكر أن الإنتاج الفنلندي لم يكن غزيرًا، بل كان محدودًا ومقتصرًا على بعض التجارب المعدودة التي لا يُذكر منها سوى فيلم باسم "أنا ليزا - Anna-Liisa "عن قصة لتولستوي، أما باقي الأفلام فقد كانت تقليدية، وسارت على نهج الأوائل، وهي سينما الحياة اليومية، فلم تقدّم جديدًا يُذكر.

بالمثل كانت النرويج؛ فقد تأسست فيها أول شركة إنتاج جادة في العام 1916. قبل ذلك العام تأسست عدة شركات إنتاج، لكنها لم تتحل بالاستمرارية الكافية أو الأعمال الجادة. ولقد بدأت السينما النرويجية بإثبات مكانتها مع بدايات العام 1920، فتم إنتاج العديد من الأفلام بها مثل فيلم " نمو التربة - Growth of the Soil " الصادر عام 1921 والمبني على رواية بنفس الاسم للكاتب النرويجي كنوت هامسون، للمخرج جونار سومرفيلدت، وفيلم " إلى المراعي - Til sæters "للمخرج هاري إيفارسون، والمبني على مسرحية بنفس الاسم للمؤلف النرويجي كلاوس بافيلز ريس، وكان السبب الرئيسي لشهرة ذلك الفيلم حينها هو السمعة الجيدة لمسرحية كلاوس، التي استمرت على المسارح النرويجية، ودومًا ما كانت تلاقي قبولًا وترحيبًا. واقتصرت تلك الحقبة على أفلام معدودة جيدة مثل فيلم "ليلا – Laila" الصادر عام 1929 للمخرج جورج شنيفويغت، الذي عمل قبل ذلك مصوّرًا في فيلم "أرملة القس - The Parson’s Widow" الصادر عام 1920 للمخرج الدنماركي كارل ثيودور دراير.

أما عن الدنمارك، فتم افتتاح أول قاعة عرض سينمائية فيها في العام 1904، وقبل ذلك بسنة واحدة، في 1903، صُنع أول فيلم روائي دنماركي وهو فيلم "الإعدام - The Execution " للمخرج بيتر إلفِلت.

في تلك الحقبة أيضًا، تم إنشاء شركة الفيلم الدنماركي (Nordisk Film) لتصبح بعد ذلك من أهم شركات الإنتاج السينمائي في العالم، وبها أقدم ستوديو سينمائي تم إنشاؤه عام 1906. وانتشرت بعدها بشكل أوسع شركات الأفلام الدنماركية، منتجة أفلامًا مهمة أثرت على السينما العالمية وقتها مثل فيلم" تجارة العبيد البيض - The White Slave Trade " للمخرج ألفريد كوهن، وهو فيلم يتحدث عن البغاء والعبودية بشكل صريح، وقد كان الأول من نوعه في تناول تلك المواضيع. كذلك فيلم "دكتور جيكل ومستر هايد - (Dr. Jekyll and Mr. Hyde. الصادر عام 1910 للمخرج أوغست بلوم.

وكان المخرج أوغست بلوم من الرواد المتميزين في تلك الحقبة، وتجلت موهبته في أفلام أخرى مثل:

(The End of the World) نهاية العالم

(In the Prime of Life) في ريعان الشباب

(The Right of Youth) حق الشباب

كان بلوم من أوائل من طوّعوا الإضاءة لخدمة الفيلم بشكل جيد عن طريق التلاعب بها. فمثلًا، كثرة الانعكاسات والظلال أعطت للمشاهد نوعًا مختلفًا من الإثارة، يوحي بالتوتر والقلق، وكان ذلك مناسبًا لأفلام الجريمة حينها. حتى رواد التعبيرية استلهموا من ألاعيبه في استخدام الأضواء والظلال. كما شارك في إخراج فيلم "أوامر مختومة - Sealed Orders " الصادر عام 1914 مع المخرج بنيامين كريستينسن.

ولقد كان لكل من كريستينسن وبلوم طرق مختلفة في التصوير؛ مثلًا الأبواب والمصاعد تُصوَّر من الداخل لا من الخارج كما كان متعارفًا حينها. الأضواء، الانعكاسات، تطويع المرايا... كل ذلك كان مختلفًا، حتى اتخذت السينما الدنماركية شكلًا جديدًا، أكثر تقنية وحرفية، وغرائبية على أيدي المخرج الدنماركي كارل ثيودور دراير.

وقد اشتهر دراير بفيلمه الصادر عام 1928

 "آلام جان دارك- (The Passion of Joan of Arc " وحتى الآن يظل هذا الفيلم تحفة من تحف السينما العالمية، ومن العلامات الأيقونية للفيلم الصامت.

أما عن السويد تم إنشاء شركة الإنتاج (Svensk Filmindustri)، وكانت نتاج دمج بين شركتي "ماجنوسون" و"سكانديا"، اللتين أسسهما بعض رجال الأعمال والمخرجين المسرحيين والمصورين. ومن أبرزهم المخرجة (Anna Hofman-Uddgren)، وكانت آنا هي أول مخرجة سينمائية اسكندنافية، وتولت بدورها مهمة أفلمة مسرحيات المؤلف المسرحي أوجست ستريندبرج. وبالطبع كانت المخرجة الفرنسية أليس غي-بلاشيه (Alice Guy-Blaché) تجربة مشجعة لغيرها من النساء، إذ كانت أليس أول مخرجة عرفتها السينما، وكانت بمثابة مفتاح دخول النساء لعالم السينما.

ساعد أيضًا في بروز اسم شركة الإنتاج كل من المخرج (Victor Sjöström)، الذي سيبرز اسمه فيما بعد كأنجح مخرجي أوروبا وأكثرهم تأثيرًا بالإضافة إلى المخرجين (Georg af Klercker, Mauritz Stiller) وبرز اسم تلك الشركة أكثر مع حلول عام 1920، وقد ساعد موقف السويد الحيادي أثناء الحرب العالمية الأولى في سهولة انتشار تلك الأفلام، بينما كانت بعض الدول الاسكندنافية تواجه صعوبة في الترويج لأفلامها كفنلندا والدنمارك.

كان الفضل في نجاح تلك الأفلام يعود لإبداع وتنوع كل من سيستروم وستيلر وكليركر؛ فستيلر تميّز بحبه للتهكم والنقد المجتمعي الساخر ومعالجة معضلات العلاقات بين الجنسين وماهية العاطفة، وهي أفكار لم تكن منتشرة آنذاك. أما كليركر فكان مهتمًا بالواقعية المجتمعية وبإعادة تقديم تيمة "الإثارة" التي سبق أن قدّمها ألفريد كوهن في الدنمارك. بينما اتخذ سيستروم اتجاهًا آخر أخذ في التطور مع مرور السنين.

مع كل أعمال وتطورات السينما الاسكندنافية ظهرت حركة مثيرة للاهتمام والجدل تقدّس الطبيعة والماورائيات، سُمّيت بـ الميتافيزيقا الاسكندنافية. هذه الحركة، التي قد تبدو غريبة بعض الشيء، كانت متجذّرة في الأساطير الشعبية والدينية. وإذا أردنا أن نحلل المفهوم، فهي لا تعني الفلسفة الميتافيزيقية ما قبل سقراط وما بعد أرسطو، وإنما تقليد لفلسفة تنتقد العقلانية والتنوير، وتعبير عن وجهات النظر حول الطبيعة عبر الأزمنة.

يرى البعض الميتافيزيقا في الإيمان والدين، فيما يراها آخرون ضد الدين في العودة إلى الأسطورة والخيال. لكن الواضح أن الفلاسفة الوجوديين وجدوا الإنسان المعاصر محبطًا من أوهام الطبيعة، مما جعله غير قادر على فهم الميتافيزيقا! ولطالما كانت هذه الفكرة حاضرة عند رواد الفن في شمال أوروبا من هنريك إبسن إلى كنوت هامسون في الأدب، واستمرت في الظهور في السينما. فقد تجلت جذور التراث والأساطير الأصيلة في أعمال السويدي فيكتور سيستروم، والمخاوف الدينية عند الدنماركي كارل ثيودور دراير، وغيرهم من الروّاد.

يمكن اعتبار العديد من صناع الأفلام الاسكندنافيين ضمن هذه الحركة، ولعل أبرزهم كارل ثيودور دراير وخاصة بفيلمه "الكلمة – Ordet" الصادر عام 1955.

يُعتبر فيلم الكلمة أفضل أفلام دراير بلا شك من حيث التناول والموضوع. فهو فيلم سابق لزمنه، ناضج كأدق وصف، وربما بشكل ما امتداد لأفلامه السابقة مثل "يوم الغضب -Day of wrath " الصادر عام 1943 و "مصاص دماء – Vampyr" الصادر عام 1932، 

 لكنه كان أكثر هدوءً منهم، يميل للنزعة التأملية وطرح الأسئلة فيما تدور أحداثه في قرية صغيرة، تحديدًا داخل منزل لأحد العائلات التي تشهد احتضار أحد أفرادها.

نلاحظ أيضًا أن فيلم (Vampyr) يشبه كثيرًا نهج أفلام التعبيرية الألمانية من حيث طريقة التصوير، الظلال والأضواء والأجواء، وحتى الموضوع. لكنه يختلف في البيئة التي اختارها دراير لفيلمه، إذ صوّر في بيئة ريفية بدائية أكثر منها حضرية هو أيضًا، بينما التعبيرية كانت ترصد المدينة وتركز على الأزقة ومداخل المباني والسلالم الخلفية. يمكن القول إن هذا الفارق هو ما يميز بين أفلام التعبيرية الألمانية وأفلام الميتافيزيقا الاسكندنافية، فهي سينما تهتم أكثر بالعالم الآخر والماورائيات، ترصد الطبيعة وغرابتها، سوداوية وتركز على الموت أكثر من الحياة.

ويُعتبر السويدي فيكتور سيستروم من أهم رواد الحركة إن لم يكن الأهم. فقد بدأ أسلوبه السينمائي في الظهور عام 1917 مع فيلم " الرجل الذي كان – A man there was " المقتبس عن قصيدة بنفس الاسم للكاتب النرويجي هنريك إبسن. وقد مثّل هذا الفيلم إعلانًا عن بداية مخرج متفرد، حيث رصد فيه سيستروم دواخل وصراعات بطله: الشعور بالمنفى والعزلة. حتى الطبيعة بمفرداتها عبّرت عن ذلك الصراع. وبشكل ما يمكن القول إن فيلم الرجل الذي كان هو أول فيلم رسّخ مفهوم الميتافيزيقا الاسكندنافية، نتيجة المزج بين مفردات الطبيعة والصراع الداخلي للشخصية.

ويتجلى ذلك المزيج بشكل أكبر في فيلمه " الخارج عن القانون وزوجته - Outlaw and His Wife "، حيث يصوّر سيستروم جمال ورعب الهواء الطلق والطبيعة البشرية. حيث تدور القصة حول متمرّد يسعى للخلاص عبر محاولته العيش، فيسافر البطل (الذي لعب دوره سيستروم نفسه) من المدينة إلى الجبال ليروي قصته مع الطبيعة. وقد شهد الفيلم العديد من اللحظات الصادمة التي جذبت المشاهد حتى النهاية. وقدّم سيستروم موضوعات مثل الحب والفقر والبؤس بشكل بصري جميل، حتى أصبح الفيلم أحد أفضل الأفلام الصامتة في تاريخ السينما.

أما فيلمه "عربة الأشباح - The Phantom Carriage" الصادر عام 1921 فيمكن اعتباره التجلي الصارخ للموجة الاسكندنافية وذروة السينما السويدية. وامتد تأثير تلك التجربة إلى كبار المخرجين مثل الأمريكي ستانلي كيوبريك والسويدي إنغمار بيرغمان. فلقد كان الفيلم قائمًا بالكامل في عالم ما ورائي بعد الموت، يناقش فكرة الندم واستحالة الرجوع، فينجح في بث القلق والتوتر والرثاء لحال البطل، وهو ما نراه جليًا في أفلام تالية، مثل التوت البري لبيرجمان، وبابا أمين ليوسف شاهين مثلا.





وبعد النجاح الكبير لمخرجين مثل سيستروم وستيلر وذيوع صيتهم في اسكندنافيا وأوروبا، تلقوا دعوات للعمل في هوليوود كأقرانهم في باقي دول أوروبا مثل كارل دراير وفريتز لانغ ومورناو وغيرهم. فجاء فيلم "من تلقى الصفعة He Who Gets Slapped عام 1924 كأول أعمال سيستروم في هوليوود. وقد كان فيلمًا سابقًا لزمانه، وجّه فيه سيستروم نقدًا مجتمعيًا ساخرًا، ليس فقط لمجتمع محدد بل للعالم أجمع، حيث ظهر فيه مهرجون يتحكمون في مصير الأرض، بينما يقوم مهرج آخر باللعب بمجسم لكوكب الأرض.

كما نجح سيستروم في تثبيت اسمه بهوليوود بفيلمه "الرياح – The wind " عام 1928 حيث أكّد على تأثير العناصر الطبيعية، خاصة الريح على بيئة الفيلم وشخصياته. يتضح ذلك في لقطات الطبيعة والرياح التي التُقطت في الصحراء، وفي مشهد افتتاحي لهجوم عاصفة على جيش نازل من القطار، مما عزز من واقعية تصوير الظواهر الطبيعية وردود الفعل النفسية للشخصيات. لكن كل ذلك بأسلوب سيستروم الهادئ والبطيء.

وأخيرًا ينتهي الفيلم نهاية سعيدة تماشيًا مع سينما هوليوود وأهداف الشركة المنتجة، رغم أن الرواية الأصلية للكاتب سكاربارو كانت تنتهي بشكل مأساوي خاضع لحكم القدر.

بعد الريح عاد سيستروم من أمريكا بعدما فشله في مواكبة السينما الناطقة، ليصنع آخر أعماله في السويد وإنجلترا. ثم عاد لشغفه الأول وهو التمثيل، حيث شارك في 19 فيلمًا مع عدة مخرجين أوروبيين. ولعل أشهر أدواره كان مع إنغمار بيرغمان في فيلم التوت البري عام 1957، والذي يُعد تكريمًا لفيلم سيستروم عربة الأشباح، وسيرة ذاتية مصورة لأفكاره عن الأحلام وفشل البشرية، وتعبيرًا عن انبهاره الدائم بالطبيعة في تشكيل المشاعر الإنسانية، فيما لم يكمل دراير هو الآخر كثيرًا فلقد مات في أواخر الستينيات بعد فيلمه الأخير" جيرترود – Gertrud " الصادر عام 1964.

رغم تناسيهم، كان هؤلاء الرواد الأوروبيون هم الذين منحوا السينما مكانتها الفنية مع بدايات القرن العشرين، وقدموا لها ما يوازي الموسيقى والأدب والمسرح، وأعطوها شخصية جديدة، قادرة على سبر أغوار كل ما هو ما ورائي وغامض في الحياة.



- نشرت المقالة بموقع الجزيرة الوثائقية بتاريخ 11 سبتمبر لعام 2025



author-img
يدرس السيناريو بالمعهد العالي للسينما وعضو جمعية نقاد السينما المصريين، التابعة للفيبريسي (الاتحاد الدولي لنقاد السينما). كتب لدى العديد من المواقع والمجلات العربية، عمل ضمن فريق مهرجان القاهرة السينمائي، مهتم بالسينما، تاريخها، وعلاقتها بباقي الفنون.

تعليقات