القائمة الرئيسية

الصفحات

كيف شكلت السينما الأفريقية هويتها: مدخل إلى سينما عثمان سيمبين





لا شك أن السينما منذ بداياتها، كانت أداة فكرية خطيرة، ظهر ذلك في مرحلة مبكرة جدا من تاريخها، فمثلا نرى في فيلم “مولد أمة” (The birth of nation) للمخرج الأمريكي “دابليو غريفيث” (1915) خطاب كراهية واضحا، عنصريا وشديد القسوة ضد السود.

سبب الفيلم إشكالا كبيرا لمخرجه وقت ظهوره، لدرجة أنه صنع فيلما بعده، تكفيرا عن خطئه، ولشعوره بالذنب كما قال، وهو فيلم “تسامح” (Intolerence) الذي صدر بعده بعام واحد.


نلمس ذلك أيضا في أفلام التعبيرية الألمانية، التي تلت الحرب العالمية الأولى، وجاءت معبرة عن هموم الشارع الألماني وإحباطه، وكذلك في أفلام حركة المونتاج السوفياتي، التي تلت الثورة البلشفية، وأتت معبرة بقوة عن نزعة السوفيات القومية.


يليهما انطلاقة دعاية هوليود على أكتاف مخرجي أوروبا والدول الإسكندنافية، أما أشهر دعاية في السينما، فكانت من نصيب الدعاية النازية بقيادة حكومة “غوبلز”، تمجيدا للرايخ الثالث.


وبغض النظر عن الكيفية التي استغلت بها السينما، سواء كانت جيدة وحقيقية في حالة “سينما فايمار والمونتاج السوفياتي”، أو لئيمة مثلما نرى في الدعايات النازية بعد 1933، فإنه لا يمكن إنكار تأثيرها الواسع والقوي على الجماهير.


نرى امتداد تلك الدعاية أيضا في دول ومناطق شتى في العالم، مع بداية الثلاثينيات حتى الحرب العالمية الثانية، التي عُدت مفصلية في تاريخ الفنون والسينما تحديدا، لكونها الفن الناشئ. فنرى في إيطاليا “سينما الهواتف البيضاء” ونرى في البرازيل “سينما التشانشادا” ونرى في مصر “سينما الكباريه”، وكلها سينما ربما لها أوجه شتى، لكنها لعملة واحدة، تلك العملة تمثلت في الاستعمار.

“سينما الهواتف البيضاء” مصطلح يشير إلى نوع من الأفلام الإيطالية أنتجت في الثلاثينيات والأربعينيات، وتتميز بالتركيز على مواضيع خفيفة بعيدة عن الواقع، مع استخدام الأثاث الفخم والأزياء الأنيقة، وغالبا ما تتضمن هواتف بيضاء في مشاهدها

ويرى إدوارد سعيد أن الاستعمار لا يقتصر على احتلال دولة قوية لدولة أضعف منها، بل الاستعمار في جوهره فرض لثقافة المستعمر على الدولة المحتلة، منظومة متكاملة منعكسة في هيمنة ليست عسكرية فحسب، بل ثقافية أيضا، تمررها اللغة والفن وحتى الاقتصاد، وهو ما يسمى “ما بعد الاستعمار” أو الهيمنة غير المباشرة.


اعتزاز بالمحلية وتحرر من الصورة النمطية

لا يمكن أن تنفصل السينما التي نشأت في أفريقيا في الستينيات عن سياق السينما الثالثة، حتى وإن ظهرت قبل تبلور ما يسمى “السينما الثالثة”، فمبادئها جميعها نجدها حاضرة مثلا في أفلام المخرج السنغالي عثمان سيمبين، والمخرج المالي سليمان سيسي.

بدأ عثمان سيمبين (1923-2007) ،مبكرا بأول أفلامه القصيرة “بوروم ساريت” (Borom Sarret) الصادر عام 1963، فمن الناحية التقنية نجد ذلك منعكسا على الكاميرا البدائية التي أحضرها معه، بعدما أتم دراسته السينما في معهد موسكو عام 1962، وصور بها فيلمه.


ومن حيث الموضوع، اختار تصوير المعاناة اليومية لسائق العربة المحلي، فنرى أصالة في الطرح، واعتزازا بالهوية المحلية، برغم النية في الكشف والفضح.

وهنا تتجلى المبادئ الأساسية عند صناع السينما الثالثة، أفلام منخفضة التكاليف ذات تقنيات بدائية، واعتزاز بالهوية المحلية، ومحافظة على أصالة الموضوع، بعيدا عن الصور النمطية التي فرضها الاستعمار.

وذلك ما صنع رواد سينما نوفو بداية من منتصف الخمسينيات، وتجلى بقوة في الستينيات، وأفلام الواقعية الإيطالية أيضا بعد انتهاء الحرب، فنجد أصالة في الطرح واهتماما بالواقعي ورفضا للمتخيل الزائف، ينعكس ذلك في المواضيع والخطاب واللغة والمعالجة البصرية. هنا نجد اتساقا مع مبادئ السينما الثالثة التي لم تحدها جغرافيا ولا ثقافة، بل شملت كل ما هو حقيقي مناهض للاستعمار وثوري.


نفض الغبار.. تشكل الهوية البصرية بعد الاستقلال

سُمي عام 1960 عام أفريقيا، ففيه استقلت نحو 17 دولة أفريقية من حكم الاحتلال، منها السنغال ومالي، وهي الدول التي برز فيها رواد السينما فيما بعد.


وكان من نتائج الاستقلال ظهور حركات فنية أصيلة دعت في جوهرها لإحياء الفن والتراث الأفريقي ليكون رد فعل، ودعوة علنية للتحرر من هيمنة الاستعمار الثقافي الغربي، رغبة في استعادة هوية بصرية أفريقية أصيلة.

نرى ذلك متجليا في لوحات “مدرسة داكار الفنية”، وغيرها من المدارس الناشئة في دول غرب أفريقيا في الستينيات، وكانت امتدادا للحركة الزنوجية، التي انتشرت في ثلاثينيات القرن العشرين لا سيما في الأدب، نلمس هذا الأثر في أفلام “سيمبين”، لا سيما فيلمه “الحوالة” (Mandabi).


ففيه نرى إحالات واضحة للوحات الحركة الفنية في دول غرب أفريقيا، وتحديدا لوحات الرسام الجنوب أفريقي “جيرارد سيكوتو”.


ولم تكن تلك الإحالات وليدة اللحظة، ولا مجرد رغبة في عمل مفارقة ما، فقبل صدور الفيلم عام 1968 قال سيمبين: “لقد سئمنا من الريش والطوطم”، وهو تعبير يراد به الرفض الصريح للصور التقليدية والمحظورات المفروضة عنوة على الشعب الأفريقي، سعيا لخلق صورة جديدة وحقيقية.


سلاح الاعتزاز بالهوية واللغة في مجتمع أمي

في عام 1961، صدر للمخرج والكاتب الإيطالي الشهير “بيير باولو بازوليني” فيلمه الطويل الأول “أكاتوني” (Accattone)، ويرصد حياة قواد مشرد في ضواحي روما، ونراه يتصادم مع المجتمع من حوله. وكان “بازوليني” شديد الجرأة يومئذ، حين استخدم اللهجة المحلية “رومانيسكو”، وهي لغة روما العامية القديمة، وكانت لغة الشارع، وارتبطت بطبقة الكادحين والمهمشين.

وليس غريبا على سيمبين أن يتلاقى في تلك النقطة مع “بازوليني”، الشيوعي المحب الوفي لـ”غرامشي”، وكان سيمبين قد انضم للحزب الشيوعي الفرنسي في الأربعينيات، عندما كان عاملا على رصيف موانئ في مرسيليا.

ظهر ذلك التلاقي بجرأة شديدة في فيلم “الحوالة”، حين استخدم سيمبين لغة “الولوف” المحلية، وهي اللغة الأكثر انتشارا بين الطبقات الشعبية، وعُد ذلك يومئذ غير معقول، لا سيما أنه كان فيلمه الطويل الثاني، بعد فيلمه الأشهر “فتاة سوداء” (Black girl) الصادر عام 1966 بالفرنسية، وكان أول فيلم روائي طويل وضع السينما الأفريقية على مسار السينما العالمية، وقد فاز بجائزة جون فيجو في فرنسا.

بناء على ذلك، فقد رأى سيمبين أن اللغة والهوية البصرية المحلية –بغض النظر عن الموضوع– يستطيعان خلق ما هو أصيل، لأنهما ضد رغبة المستعمر، الذي يفرض الالتزام بلغته وهويته.

هذا ما جعله يفضل السينما على الأدب، وقد كان يكتب القصص والروايات بداية من منتصف الخمسينيات، وقد طوّع معظم ما كتبه في أفلامه فيما بعد، ولكنه لم يشعر بفعالية الأدب، لا سيما حين عودته إلى السنغال بعد الاستقلال، وإدراكه بأن غالبية الشعب لا يقرأ ولا يكتب، هنا شعر بأن السينما قد تكون أداة فعّالة ومؤثرة أكثر، وبأن اللغة المنطوقة قد تكون أبلغ من المكتوب.


البيروقراطية.. معركة مع جندي الاستعمار المزعج

يظهر أن لسيمبين صدمة مع البيروقراطية، وهي جلية في فيلمه الأول “باروم ساريت”، وممتدة إلى أفلامه التالية بوضوح، كما نرى في فيلمه “الحوالة”، وفيلمه “إكسالا” (Xala) الصادر عام 1975.


ففي فيلمه الأول يرصد يوما في حياة سائق عربة حصان في مدينة داكار، ونرى أثناء تجواله في المدينة المفارقة بين الأحياء الفقيرة ومعاناة أناسها، ووجودهم على مقربة من الأحياء الحداثية.

الملفت أنه يبتعد عن الميلودراما في رصد بطله سائق العربة والفقراء المحيطين به، فهو ينحاز إليهم لكنه لا ينفك عن إدانتهم، لكونهم جزءا من منظومة البيروقراطية، ففي البداية نرى كيف تسير الأمور بالرشوة والمحسوبية، ويظهر ذلك في مشهد واضح عندما يرفض الحارس إدخال جثة الطفل الرضيع لدفنها، لأنه لا يوجد ما يثبت هويته، فتُترك عند البوابة.


هنا نلحظ اتفاقا ضمنيا وآليا، يصدق على تلك المنظومة، حتى بين أبناء الطبقة الفقيرة، وما يعد ذكيا في الفيلم هو فقدان السائق عربته في النهاية عند دخوله حي الأغنياء، وكأن المخرج يقول إن الكل غير آمن، في ظل تلك البيروقراطية التي ورّثها الاستعمار، وتحديدا لأولئك المؤمنين بها.


وفي فيلمه الطويل الثاني “الحوالة” يركز أكثر على مساوئ البيروقراطية، فلأجل ورقة صغيرة تثبت حقه في أخذ الحوالة، يضطر بطل الفيلم لخوض رحلة عبثية من الإجراءات التي لا تنتهي، فيكشف شيئا فشيئا تغلغل الفساد في المنظومة الحكومية والأخلاقية للمواطن السنغالي.

أما في فيلم “إكسالا” فمن المشهد الأول يوجه نقدا لاذعا للسلطة السنغالية ونخبها، فهو يسخر منهم ولا يراهم إلا عبارة عن صورة مبتذلة، مكررة ورديئة من الفرنسيين، بذلك فهو يرى أن تلك البيروقراطية رسخت جذورها في المجتمع السنغالي، حتى وإن رحل الاستعمار فهي باقية ومتشعبة، تبدأ من النخب حتى تصل إلى الطبقات الكادحة، لذا فهي إعادة قولبة للاستعمار، لكن بصورة مختلفة ليس إلا.


تحطيم المحرمات.. أصالة تحتفي بإرثها المحلي في الطرح


صدر فيلم “مولاديه” (Moolaade) عام 2004، وفاز بجائزة “نظرة ما” من مهرجان كان السينمائي، ويناقش فيه عثمان سيمبين مشكلة ختان الإناث، برصده حكاية 4 فتيات يهربن من تلك الطقوس إلى امرأة تدعى “كوليه”، فتتعهد بحمايتهن تحت راية “المولاديه” وهي عادة قديمة تتعهد بالحماية لمن يطلبها، وحينها تجد كوليه نفسها في مواجهة تقاليد قديمة وراسخة متمثلة في ختان الإناث.


والملفت في الفيلم أن سيمبين يتصدى لطقس الختان باستحضاره طقسا آخر قديم وهو المولاديه، فهو لا ينتصر للحداثي الغربي على حساب ما هو أصولي في تقاليد المجتمع، بل يحاول كسر تلك الدائرة نفسها من الداخل، باستحضار طقس أصيل في الثقافة المحلية، ليثبت أن التغيير لا يشترط أن يأتي من الخارج مما يراه المستعمر، بل هو موجود ومتجذر في حالة وجود إرادة.

كما يستعين سيمبين أيضا بلغة “البامبارا”، وهي لغة محلية في السنغال ومالي، مما يؤكد اعتزازه بكل ماهو أصيل حتى النهاية.

ومن أفلامه الفيلم المثير للجدل “سيدو” (Ceddo) الصادر عام 1977، ويرصد فيه تصدي قبيلة “سيدو” -ذات الجذور التاريخية- لمحاولة فرض الإسلام عليها بالقوة، قبل أيام الاستعمار.

ويتضح من خلال الفيلمين أن سيمبين مهتم بنقد السلطة الأبوية وفضحها، سواء تمثلت في عادات وتقاليد أو دين وثقافة، فهي في نظره مهما اختلفت صورتها ليست إلا امتدادا للاستعمار. وتظهر دقته في اختيار مواضيعه والبعد عن الرؤية الاستشراقية في رصدها، فيظهر وعيه بثقافته المحلية وحساسيته الشديدة في التعامل معها.


السينما أداةً سياسية.. ذاتية سيمبين وصداها في أعماله

يقول عثمان سيمبين في حوار صحفي: الثقافة هي السياسة، ولكنها نوع آخر من السياسة، في الفن كنت أنا كذلك سياسيا، عليكم أن تلاحظوا ذلك، إنني عندما أتكلم إليكم أقول نحن، لا أقول أنا.


لا يخفى على من يعرف القليل عن عثمان سيمبين تاريخه الحافل بالعمل والنضال، من الصيد في موطنه إلى الهجرة والعمل بميناء مرسيليا، ومن التجنيد الإجباري إلى الانضمام للحزب الشيوعي الفرنسي، ومن الكتابة الأدبية إلى دراسة السينما، والكثير من الأحداث الحافلة التي لا تنم إلا عن عقل واع وروح أمينة، وهبت نفسها للتجربة الحياتية بكل صدق.


لذلك ينعكس بسهولة صدى تلك التجربة على أفلامه، فمثلا في فيلمه الروائي الطويل الأول “فتاة سوداء” (1966)، عرض قصة الشابة “ديوانا”، التي تنتقل إلى فرنسا للعمل خادمة لدى أسرة فرنسية، ويسهل التنبؤ أن بعض ما عُرض من معاناة بطلة الفيلم، هو بالتأكيد شعور حقيقي تولد لدى سيمبين من قبل، أيام الهجرة والعيش في بلد المستعمر.

الملصق الدعائي لفيلم “فتاة سوداء” يظهر امرأة ترتدي وشاحا أبيض يغطّي شعرها، عيونها تتجه نحو السماء بحلم بعيد. تحيط بعنقها أقراط كبيرة على شكل زهرة، وعقد ماس متعدد الخيوط، لتكتمل الصورة التي تجمع بين الجمال والعزيمة، وبين الماضي والحلم بالمستقبل

لا يقتصر هذا الشعور بالعجز والضعف على سيمبين فحسب، بل هو شعور يحاول تعميمه، فضحه بإظهاره لصورة كاملة عن المستعمر، ممثلا ذلك في أسرة فرنسية صغيرة، وسلوكها تجاه الخادمة السنغالية.


تتجلى تلك الذاتية تجليا أكبر في فيلمه “إيميتي” (Emitie) الصادر عام 1971، ويرصد فيه معاناة جنود السنغال، الذين جُندوا عنوة خلال الحرب العالمية الثانية، وقد عايش سيمبين ذلك بنفسه وعلى مرأى عينيه، واستخدم لغة “الديولا” المحلية، مما يثبت تمسكه بالهوية المحلية، ومحاولته الدائبة توثيقها. 



- نشرت المقالة بموقع الجزيرة الوثائقية، بتاريخ 15 أغسطس لعام 2025

author-img
يدرس السيناريو بالمعهد العالي للسينما وعضو جمعية نقاد السينما المصريين، التابعة للفيبريسي (الاتحاد الدولي لنقاد السينما). كتب لدى العديد من المواقع والمجلات العربية، عمل ضمن فريق مهرجان القاهرة السينمائي، مهتم بالسينما، تاريخها، وعلاقتها بباقي الفنون.

تعليقات