للميلودراما تعريفات كثيرة، فهي تُعرف أحيانا بالقدرية؛ أي خضوع البطل لقوى أكبر منه تتجاوز إرادته. وتُعرف أيضا بأنها الاستغراق في المآسي تباعا مع نهاية سعيدة، ويعرّفها البعض بأنها وجهة النظر الأحادية للأشياء خيرا وشرا، صوابا وخطأ.
ويعرفها “بيتر بروكس” في كتابه “التصور الميلودرامي” تعريفا دقيقا مختصرا، فيقول إنها خطاب أخلاقي مشبع بالعاطفة، وهي “بوصلة المعنى الأخلاقي في عالم مفقود المعايير”.
بالرجوع لتاريخ السينما المصرية، بدءا من الثلاثينيات تحديدا، التي نجد في بدايتها ترسيخا لنهج السينما المصرية وأسلوبيتها مع الفيلم الغنائي، يتجلى ذلك في تجربة المخرج محمد كريم، والمطرب محمد عبد الوهاب، وبدايتهما مع فيلم “الوردة البيضاء” (1933).
سينما بين التسليع التجاري والتوجيه الفكري
نجد أن الفيلم المصري -الغنائي تحديدا- في الثلاثينيات والأربعينيات وقبل ثورة يوليو قد خضع لمعيارين، معيار فكري ومعيار تجاري، فالخطاب الفكري نلمسه في اختيار مواضيع الأفلام، التي تتشابه غالبيتها مع بعضها، فشاب غني يحب فتاة فقيرة، أو فقيرة تحب غنيا، أو غني يحب راقصة أو مغنية، وهي مواضيع كان غرضها البعد عن مشاكل الشعب العظمى، وتصدير مشاكل أقرب إلى النخبة، فهي لا تتجاوز طبقة نصف المجتمع المصري.
أما الشق التجاري، فيظهر في اختيار أبطال الأفلام، فنرى محمد عبد الوهاب بطلا لكثير من أفلام المخرج محمد كريم، وكذلك أم كلثوم وفريد الأطرش وفوزي وغيرهم، وكان سبب اختيار المطربين يومئذ انتشارهم وحب الناس لهم، فبذلك يكون نجاح الفيلم مضمونا، كما يُملأ الفيلم بدلا من إشباعه بالأحداث والصراعات.
نلمس ذلك أيضا في أفلام ليست غنائية محضة، كما في فيلم “لو كنت غني” (1942) للمخرج هنري بركات، فنجد خطابه الفكري واضحا بقوة، يحمل إدانة أخلاقية للأغنياء وذما للمال، وهو خطاب متلاعب، لأنه موجه إلى الفقراء، يذكرهم بأهمية الرضا والصحة، ويطلب منهم نبذ المال، لأنه لا يأتي إلا بالشر كما حدث للبطل محروس (الممثل بشارة واكيم).
الميلودراما.. بصمة طبعت بداية الواقعية المصري
يمتد ذلك الخطاب ويتشعب وينعكس في أعمال كثيرة، فنجده حتى في فيلم “العزيمة” (1939)، الذي يعد فيلما مؤسسا للواقعية المصرية، فحل مشكلة الشاب محمد (الممثل حسين صدقي) يأتي من الخارج، ممثلا في الشاب عدلي (الممثل أنور وجدي) ونزيه باشا (الممثل زكي رستم).
والحل الذي يأتي من الخارج هو من سمات الميلودراما، ولأن الميلودراما تفرض الانسياق للقدرة الإلهية والأقدار، فإن الإنسان فيها منزوعة إرادته، فيكون الحل من الخارج دعوة للتكاسل، لتأكيد استحالة التغيير بالإرادة الحرة والفردية، وهو ما يؤدي إلى استمرار دائرة المعاناة، المتمثلة هنا في الفقر.
لذلك نلحظ أن السياق الميلودرامي الذي يتجلى في نهاية الفيلم موجود على امتداده، وهو لا يختلف كثيرا في جوهره عن الخطاب المباشر في فيلم “لو كنت غني”، أو ما قبله من الأفلام التي تعمدت تجاهل أكثر طبقات المجتمع المصري، والغرق في أحزان طبقة بعينها.
لذلك لا يمكن أن تنفصل الميلودراما ذات النهايات القدرية السعيدة أو الحزينة عن سياق ما هو فكري، فكل قصة ميلودرامية ماهي إلا خطاب فكري يدين أو يحيد النظر بشكل ما، لأنها لا ترى إلا من جانب واحد.
نعود لسينما المؤلف ماهر عواد، وقد كتب للسينما المصرية 7 أفلام فقط، وكانت له بصمة متفردة، مغايرة ومتميزة عن كل ما عداه، نلمس فيها أثرا لذلك التراث الممتد في السينما المصرية، خيطا رقيقا يربط ماهر عواد بالميلودراما التي شكلت السينما المصرية، وبالغنائي الذي رسم خُطاها في طريق العالمية، في وقت مبكر من القرن العشرين، لكن ما الذي يجعله مغايرا برغم التزامه بالميلودرامي، وثائرا في الوقت ذاته؟
خطاب أخلاقي ينتصر للمقهورين
ظهر فيلم ماهر عواد الأول عام 1987، وهو فيلم “الأقزام قادمون”، من إخراج شريف عرفة، وبطولة يحيى الفخراني، ويرصد أزمة مخرج إعلانات وتشككه في أخلاقية ما يفعل، ألا وهو الترويج للوهم. يشارك البطولة مع يحيى الفخراني “مجموعة من الأقزام”، وقد كُتب ذلك بخط عريض على ملصق الفيلم، ويحمل اسمه معنى مزدوجا ساخرا، ويظهر ميل كاتبه المسبق، وهو الانتصار للمقهورين.
يظهر ذلك أيضا في جميع تجاربه التالية، ففي فيلم “الدرجة الثالثة” (1988) ، بعد صدور “الأقزام قادمون” بعام، من بطولة أحمد زكي وسعاد حسني، وإخراج شريف عرفة، يكون بطلا الفيلم مشجعين من درجة ثالثة لفريق مغمور، تهيمن عليه مجموعة من رجال الأعمال.
تسير جميع أعماله على ذلك النمط، بين مغنيَي شارع مشردين في “سمع وهس” (1991) ، ومخرج وكاتب لا يستطيعان إنتاج فيلمهما في “يا مهلبية يا” (1991) ، وموظف منحوس في “الحب في الثلاجة” (1993) ، وممثل وممثلة مشردين، من أسر فقيرة وبعيدة عن مركزية المدينة في “رشة جريئة” (2001).
فماهر عواد واضح جدا في تبني سردية البطل المهمش، أو البطل الهامشي، وهي هامشية إما ثقافية كما نرى في “سمع هس” وصراع الزوجين حمص وحلاوة مع المغني غندور، وهو الذي يمثل النخبة المثقفة. وإما هامشية مجتمعية كما نرى في “الحب في الثلاجة”، و”الدرجة الثالثة”، و”رشة جريئة”. وإما هامشية قدرية، فنجد الأبطال خارج ما يمكن تسميته “الرعاية الإلهية”، كما في “رشة جريئة”، و”صاحب صاحبه”
انحياز مشروط إلى طبقة الهامش
يظهر انحياز ماهر عواد دوما لأولئك الذين هم على هامش كل شيء، ومع ذلك الانحياز لأبطاله، فإنه لا يتوانى عن نقدهم، وهو ما ينعكس في فيلمه “رشة جريئة” بقوة، فبطلاه ميمة (ياسمين عبد العزيز) وسلماوي (أشرف عبد الباقي) لا تكمن مشكلتهما في طبقتهما المجتمعية فقط، بل يطرح الكاتب سؤالا جوهريا حداثيا، ألا وهو هل ميمة وسلماوي موهوبون أصلا؟
هنا يبتعد عواد عن الميلودراما العادية التي تلزم الانحياز، مع أن خطابه مباشر في أفلامه، كما نرى في الخطبة الأخيرة بفيلم “الحب في الثلاجة” على لسان مهدي (الممثل يحيى الفخراني)، إذ يقول:
العفن طايلنا طايلنا
لازم نتحرك على آخر نفس
يمكن منقدرش ننتصر عليهم
لكن أكيد نقدر نمرمغهم معانا في الوحل
على أن انحيازه لأصحاب الحق لا يمنعه من نقدهم، وبذلك يكون انحيازا مشروطا، فهو لا ينتصر للجماهيري الشعبوي على طول الخط في مواجهة النخبوي الزائف، بل لا يتوانى أيضا عن نقد الشعبوي كما نرى في فيلم “رشة جريئة” ومشهد سلماوي الشهير، إذ يمثل دور قائد من ثورة 19 يحيى سعد زغلول، ثم يفقد ورقة الشعارات، فيبدأ بترديد “باتا باتا متانة وخياطة”، و”هبطل السجاير وأكون إنسان جديد”، وهي أغنية لشعبان عبد الرحيم، فيجد الجمع من ورائه يردد بلا تفكير في منطقية تلك الشعارات.
نرى ذلك أيضا في فيلم “يامهلبية يا”، حين يسخر من الشعارات الوطنية الشعبوية، فيظهر أن كرهه ليس موجها للشعارات الشعبوية فحسب، بل للنخبوي أيضا، ويتجلى ذلك في السخرية من الأغاني الوطنية بفيلم “سمع هس”، عندما يغني غندور “أنا وطني وطني وبطنطن، وبحبك بتباهى يا وطنطن”.
فهو إذن مع انحيازه لا يتوقف عن نقد ما يكره، وهو منطلق من سردية المهمش، على عكس تراث السينما المصرية، الذي لم يحتفِ بأولئك المهمشين، بل توجه لرصد طبقات ومشاكل بعينها، وغالبية من انتبه إليهم طبقة الموظفين، لا المشجع الذي ليس في حياته سوى الكرة في فيلم “الدرجة الثالثة”، أو مغني الشارع في “سمع هس” أيضا، فخطابه الأخلاقي لم يكن منحازا كليا للمهمش المستضعف، بل إنه لم يتوان عن نقده.
ميلودراما مغايرة تثور على واقع مشؤوم
مع أن نهايات ماهر عواد ميلودرامية غالبا، والنهاية الميلودرامية هي النهاية القدرية السعيدة، التي تتلو مجموعة من المآسي، فإن له صدى مختلفا في نهاياته، فهي نابعة من رؤية حقيقية، مستشرفة لواقعه وللمستقبل.
ففي “سمع هس” مثلا، يأتي خلاص حمص وحلاوة فجأة بورقة يسرقها ممثل البانتومايم، الذي يمثل شخصية “تشابلن”، ويعطيها لهما بعدما أغلقت جميع السبل أمامهما، كما نرى مثل ذلك في “الحب في الثلاجة”، فبعد هزيمة مهدي وأصدقائه ينقذهم فضائيون ويعيدونهم إلى الحياة، أما في “رشة جريئة”، فيعترف صبيح بارتكابه جريمة القتل.
هي نهايات تبدو سعيدة في ظاهرها، وهذا ما يجعلها ميلودرامية الطابع، لكونها فجائية ونابعة من صدفة لا تحدث في الواقع، وإن كان الاعتراف بالذنب في حالة صبيح يحدث نادرا، فمن غير الطبيعي أن يحضر الفضائيون إلى الأرض لإنقاذ مجموعة من البشر، ولا يحضر “تشابلن” من الماضي، وينقذ مغنيَي شارع.
فماهر عواد إذن لا يجد عيبا في الميلودراما وإن لجأ للخيال، فقط ليشير لمدى تشاؤمه تجاه الواقع والمستقبل، وهو تشاؤم واضح في عدم وجود الحل في واقع الأبطال، وعليه فإن الحل غير موجود إلا بصدفة -قدرية وخيالية- مستحيلة الحدوث.
يعكس ذلك أيضا نبرته الساخرة من الميلودراما، فتلك النهايات تظهر تشاؤما في المقام الأول، لكنها بمنزلة “بارودي” أيضا، أي سخرية من الميلودراما وحلولها الفورية، التي تحتم نهايات سعيدة لأبطال يعانون قسوة الحياة.
صراع الحكايات بين التجاري والفني
بدا ماهر عواد واعيا جدا بتراث السينما المصرية، وظروف الصناعة، وشباك التذاكر، وكل تلك الأمور، وهذا ما يفسر محاولته ضبط المعادلة مرارا، بين أهمية خطابه صعب الصياغة، وبين وعي المتلقي به، لا سيما وهو يوجه خطابه لمن هم على الهامش، وهم غالبية الجمهور.
انعكس ذلك في محاولته تبسيط خطابه، باختيار مواضيع أفلامه، وطبيعة أبطاله وخلفياتهم، والحلول التي يطرحها، ومن هنا يبدو واضحا في فكرهِ إلى من يوجه خطابه، وكيف.
لذلك نجد غالبية أفلامه -إن لم تكن كلها- تميل للطابع التجاري، البطل ورفيقه، والفكاهة الكثيرة برغم المعاناة، وحلول سريعة ونهايات سعيدة، واستعراضات تخفف من حدة المأساة. ولم يمنعه ذلك من التعبير عن فنيته أيضا.
وغالبية استعراضاته على وتيرة الفيلم الغنائي في تراث السينما المصرية، والغرض منها تجاري في المقام الأول، لكنه أجاد تطويعها وإعادة بث الروح فيها، بتضمين ما يود قوله على لسان أبطاله، وهو ما يظهر بشدة في “يا مهلبية يا” و”سمع هس”، متجليا ذلك في سخريته من فكرة الوطنية وشعاراتها وبيع الوهم والأحلام.
ومع أنه حاول المعادلة بين الفني والتجاري للتوفيق بينهما، فإن أفلامه لم تنجح جماهيريا، بل فشل أكثرها فشلا ذريعا، ووُصم “الدرجة الثالثة” بأنه الفيلم الذي أسقط نجومية سعاد حسني، وفشل “الحب في الثلاجة” في شباك التذاكر، فاكتأب مخرجه سعيد حامد، لأنها كانت تجربته الأولى.
ومع أنه امتنع عن الكتابة والظهور الإعلامي والصحفي، منذ آخر تجاربه “صاحب صاحبه” (2002) ، ولم يكن يحب الظهور قبل ذلك، فإنه أفلامه ما زالت حاضرة، تُستعاد من حين لآخر، لكونها أولا مستشرفة لحاضر تعيس، وثانيا لكونها كوميديا عابرة لزمانها.
- نشرت المقالة بموقع الجزيرة الوثائقية، بتاريخ 8 أغسطس، لعام 2025
تعليقات
إرسال تعليق