القائمة الرئيسية

الصفحات

استعادة ما لم يوجد: مدخل إلى سينما مارجريت دوراس





رغم ما أتت به من كوارث، شكلت الحرب العالمية الثانية علامة فارقة في فنون القرن العشرين، وانعكس ذلك على كل من الموسيقى والأدب والفن التشكيلي والسينما، وهو ما نلمسه بشدة في منتصف الأربعينيات وما بعدها، فنرى في كل الفنون تجليات لأنواع مختلفة وجديدة، قائمة في أساسها على التجريب كمبدأ، متمرد على كل ما سبق. نلمس ذلك في الأدب بشدة، في الشعر والقصة والرواية، فنراه يبتعد عن البنى الكلاسيكية والتقليدية، مؤديًا إلى ظهور أنواع وتيمات جديدة لها مرجعيات فلسفية ونفسية كانت نتاجًا للحرب.


امتدّ هذا التحوّل إلى السينما، فبرز ما يُعرف بتيار الحداثة، الذي جاء ليقوّض الثوابت الكلاسيكية للسرد السينمائي. فنرى من تجلياته تمثُّلات عدة كوجود البطل العادي (Anti-Hero)، والنهايات المفتوحة، وهدم هيكل الحبكة الثلاثية (بداية–وسط–نهاية)، واعتماد زمن شعري دائري لا خطي، بل وحتى كسر الجدار الرابع ومخاطبة الجمهور مباشرة، كما فعل بازوليني وجودار في أفلامهما.

فرض هذا التيار نفسًا جديدًا في الكتابة، فاستعان المخرجون بالأدباء والفلاسفة، كما في الموجة الفرنسية الجديدة، التي استقت من الفلسفة – وتحديدًا الوجودية – مدخلًا خاصًا لها. وتعاون صُنّاعها مع عدد من الأدباء المعاصرين، وشاركوهم في الكتابة. من أبرز الأمثلة على ذلك المخرج آلان رينيه، الذي شارك اثنين من أعلام الرواية الفرنسية الجديدة في كتابة اثنين من أهم أفلامه؛ أولهما آلان روب-جرييه، الذي شاركه في كتابة أحد أبرز أفلام الموجة الفرنسية الجديدة وأكثرها إشكالًا، وهو «العام الماضي في مارينباد – Last Year in Marienbad» الصادر عام 1961، والثانية الكاتبة مارجريت دوراس، التي تعاون معها في فيلمه المتفرد جدًا حتى يومنا هذا «هيروشيما حبيبتي – Hiroshima Mon Amour» الصادر عام 1959، والذي يرصد فيه قصة امرأة تستعيد ذكرى لقائها برجل غريب، ثم الوقوع في حبه، وصولًا إلى الفراق بينهما.


لطالما عُدَّ فيلم «هيروشيما حبيبتي» فيلمًا خلاقًا، فهو من الأفلام القليلة جدًا التي ناقشت الحرب من دون أن تُسرف في الحديث عنها، بل على العكس، تحاول تهميشها قدر المستطاع. كل شيء عائم على السطح في ذلك الفيلم، فطوال أحداثه يجد المتلقي نفسه عاجزًا عن اليقين: هل هذا حاضرٌ ما، ماضٍ، أم ذكرى، أم أضغاث أحلام؟!

التداخل بين الصوت والصورة في هذا الفيلم، بما يحمله من تناقضات، يولد في كل مرة رؤى جديدة ومختلفة عن سابقتها؛ هل هي قصة حب عادية بين رجل وامرأة، أم هما مجرد رموز لمدينة وحاضر مستمران في التداعي؟… أسئلة لا تنتهي، كل سؤال يؤدي إلى التباس، وإشكالية جديدة.


هذا بالضبط هو جوهر الرواية الجديدة، الذي انطلق منه تيار الحداثة السينمائية، فهو لا يهتم بالإجابة على أي سؤال، بل بالتوغُّل فيه، وكلما توغَّلت أكثر، ازدادت الأمور تعقيدًا والتباسًا، في محاولة من المؤلف لدفع المتلقي إلى التمرد على سلطته، بما يُعرف في النقد والأدب بـ«موت المؤلف».


وإذا كانت هذه النزعة قد تجسدت أدبيًا وسينمائيًا في تحطيم مركزية المعنى، فإن مارجريت دوراس اختارت أن تدفع بهذا الاتجاه إلى أقصاه، فلم تكن عادية أبدًا، بل ذهبت أبعد من ذلك دومًا بكتاباتها. ظهر ذلك بشكل أكبر عندما اتجهت إلى الإخراج، وتجلى أكثر أسلوبها المميز شديد التطرف والاختلاف، بما لا يتحمله الوسيط السينمائي مع كل فيلم لها، وهو ما عُدَّ طليعيًا جدًا في ذلك الوقت، مؤثرًا بالطبع على كل من تبعوها.


كمثال تقريبي لما تفعله دوراس، فللشاعر وديع سعادة قصيدة باسم «استعادة شخص ذائب»، في تلك القصيدة يحاول الشاعر استعادة ذكرى ما، شخص، أو صورة، لكنها تبدو غائبة، ومن خلال هذا الاسترجاع نلاحظ أنه في محاولة لبحث مستمر عن نفسه، فهو يعرِّف نفسه من خلال الآخر – ذاك الذي فقده، ويرى أنه لا فائدة تُرجى من التواجد من دون تلك الذكرى، من دون هذا الشخص.


هنا بالتحديد، في تلك النقطة الفاصلة، بين الذكرى ومحاولة استعادتها، تقبض دوراس على الزمن، رافضة الغرق في الحنين، ورافضة العودة إلى حاضر متهالك، لتظل عالقة بين هذا وذاك، وهذا ما يفسر نهايات دوراس المفرغة من أي معنى، ربما حتى من منطق النهاية المفتوحة نفسه، فهي أقرب لنهايات لا يحدث فيها أي شيء.


إذن، البطل في سينما دوراس ليس شخصًا. هي لا تكتفي بالأنتي هيرو، بل تزداد تطرفًا؛ فالبطل ليس وعيًا قائمًا بذاته حتى، بل ذكرى تعاود الحياة لتقبض على الوجود، الوجود الذي تتمنى، لا الذي فُرض، من خلال شخص أو صورة أو ذكرى ما.

 ولهذا يتحول المكان إلى بطل سردي في سينما دوراس، بدءًا من «هيروشيما حبيبتي»، الذي كانت فيه الأنقاض والشوارع، هي الشاهد على ذاك الحب الذي ربما لم يوجد. ومرورًا بالطبيعة المهيمنة في سينماها – تحديدًا البحر — وهو ما نلحظه في غالبية أفلامها، مثل:

«Agatha and the Limitless Readings»، و«Les Mains Négatives»، و«Son nom de Venise dans Calcutta désert»، وحتى في غياب البحر، تحل الغابة مكانه، كما نرى في «Nathalie Granger» و«India Song». 


تعتمد دوراس على الطبيعة كمتنفس للأبطال، في مقابل ظهور المنازل، والفنادق والقصور كأقفاص خانقة لأرواحهم الشبحية، فتتحد تلك الأرواح التي تتوق إلى الحرية مع الطبيعة وتذوب فيها، وهو ما نراه في كل مرة مُمثَّلًا في انتقال مفاجئ من دون أي تمهيد، تجاوزًا من دوراس لمبدأ العلّة والسببية، والمنطق التقليدي للسينما الكلاسيكية.

تلك الحالة من التوق إلى الحرية تتجاوز شخوص دوراس ومواضيعها، فتبدو هي نفسها وكأنها تحبذ التحرر الكامل، حتى من سلطة نفسها، وهي سمة برعت فيها دوراس كمخرجة سينمائية، واستقتها من الأدب. فلا نجد حوارًا – ديالوج – إلا نادرًا جدًا، فدوراس تُحبذ صوت الراوي الخارجي، وهو أحيانًا موجود داخل الصورة، وأحيانًا أخرى لا، وكأنه يحاول القبض على ذكرى ما كان يتمناها، أو أن الزمن نفسه من يحاول القبض عليه.


 ذلك ما يفسر اقتصاد دوراس في اللغة السينمائية، بدءًا من الحوار، مرورًا بالإكسسوارات والأشخاص، وحتى المعلومات. كل شيء قليل للغاية عندها، وهو ما يؤكد على رغبتها في إطلاق العنان لخيال المتلقي، وعدم تقييده برؤية ما أو حقيقة – هي من وجهة نظرها – ربما قد تكون غير موجودة.


سينما دوراس تحاول القبض على اللاشيء، الأمر أشبه بخلق ذاكرة بديلة لشخص لم يكن موجودًا حتى. التفسير الوحيد لذلك هو تأثرها بالحرب والاستعمار، فيبدو أمر الاستعادة تعويضيًا لأولئك الذين فنوا، من الأماكن والأشخاص. لذلك فهي استعادة لأنقاض ربما لم توجد إلا في صورة متخيلة. 


بذلك تتضح الالتباسات في العلاقات عند دوراس، ففي أفلام مثل: «India Song»، و«Nathalie Granger»، و«Agatha and the Limitless Readings»، تبدو كل العلاقات، مثل الصداقة، والأخوة، والزمالة، علاقات حب حميمية، كأنها محاولات لاستعادة حب مفقود قد فنى، أو للتعبير عن اضطراب هوية وشعور بالاغتراب تجاه الجسد يتضح تفشيه في طبقة برجوازية تعريها دوراس شيئًا فشيئًا، عبر قول القليل جدًا وبالإيماء، مؤمنة بالملكة التخيلية لدى المتلقي وبحريته في التأويل – وخلق نص ذي سردية موازية – قد تفوق سرديتها.


 لذا لا تقدّم دوراس إلا القليل، بل وأحيانًا لا تقدّمه حتى، ويُعد هذا من سمات السينما التأملية، ذات الإيقاع البطيء نسبيًا. هنا تقترب دوراس من صمت أنطونيوني والذي وصفته بأنه «الصمت الذي هو أبلغ قولًا من الكلام». لكن الصمت في حالتها يتجاوز كونه حالة عزلة أو موقفًا وجوديًا كما عند أنطونيوني، بل هو بمثابة تعبير عن غياب كلي، غياب قد يشمل المخرجة نفسها.


ربما لهذا تُعدّ دوراس واحدة من أقرب من تجسّد، بتعبير هيجل، اتحاد الذات مع حقيقة متعالية على العالم الظاهراتي؛ ذات كلّية، تحب ما لم يُوجد، وتتحد معه بوصفه خلاصًا شعريًا ممكنًا. 



- نشرت المقالة بموقع فاصلة السينمائي بتاريخ 6 أغسطس لعام 2025

author-img
يدرس السيناريو بالمعهد العالي للسينما وعضو جمعية نقاد السينما المصريين، التابعة للفيبريسي (الاتحاد الدولي لنقاد السينما). كتب لدى العديد من المواقع والمجلات العربية، عمل ضمن فريق مهرجان القاهرة السينمائي، مهتم بالسينما، تاريخها، وعلاقتها بباقي الفنون.

تعليقات