بعد استقلال الهند عن بريطانيا رسميا عام 1947، وانفصال الهند عن باكستان، كان لا بد أن ينعكس ذلك في خطاب سينمائي جديد، يجابه ما هو سائر ومبتذل، ويعيد تعريف الذات التي فككها الاستعمار.
كانت السينما الهندية يومئذ مقتصرة على موضوعات محددة، رومانسية وميلودرامية منفصلة عن الواقع تماما، وغلب عليها الرقص والغناء المبالغ فيه، وهي نوع السينما الذي سُمي في السبعينيات سينما “بوليود”.
بوليود اسم مكون من شقين، الأول مدينة بومباي، والثاني كلمة هوليود. وبومباي هو المسمى القديم لمدينة مومباي، وعُرفت به أثناء الاستقلال، ومع حلول عام 1995 تغير اسمها إلى مومباي، انطلاقا من وعي كبير بآليات هيمنة المستعمر حتى بعد رحيله، ورغبة في التنصل من كل ما يرتبط به، ومومباي هو اسم مشتق من اسم الإلهة المحلية “مومبا ديفي” مضاف إليه المقطع “آي”، ويعني “الأم” بلغة الماراثي المحلية.
تأسيس السينما الموازية.. استحضار اللغة والأسطورة والمكان
لا تنفصل تلك المقدمة عن سياق السينما الهندية الموازية، لا سيما أن للمخرج البنغالي “ساتاجيت راي” -وهو أحد أهم روادها- فيلما باسم “ديفي” (Devi) صادرا عام 1960، ويحاول فيه استرجاع الأسطورة المحلية، اعتزازا بالهوية، واستحضارا لها في سياق اجتماعي معاصر كعادته.
ولم يقتصر استرجاع الأسطورة على “راي”، فنراه ممتدا وشائعا بين رواد الحركة، كما في فيلم “ريتويك جاتاك” البديع ”
” (A River Called Titas) الصادر عام 1973، تمثلا للإلهة المحلية “باغواتي”، وهي رمز للأم الحامية والخصوبة في التراث المحلي.
فقد اتخذها “جاتاك” في فيلمه ممثلةً لنهر تايتاس، بصفته حامي قبيلة “مالو”، التي اختار رصدها في فيلمه، وهي قبيلة عملت بصيد السمك، وقد اختارهم رغبة في توثيق صورة عن المواطن الأصلي العامل، وما يعاني من جراء الحداثة، ولذلك يختتم فيلمه خاتمة مفجعة، فبعد نشوب حرب أهلية واقتتال بين العائلات يجف النهر فجأة، وكأن الرب يلقي بلعنته على تلك القبيلة، بعد الانقسامات التي حدثت بينهم.
يُحكى كثيرا عن “ساتاجيت راي” تأثره بالمخرج الفرنسي “جان رينوار”، عند قدومه إلى الهند وتصوير فيلمه “النهر” (Le Fleuve) عام 1951، وعن تأثره بفيلم “سارقو الدراجات” (Ladri di Biciclette) أيضا للمخرج الإيطالي “فيتوريو دي سيكا”، وهو المحفز له في صنع فيلمه الأول “أغنية الطريق” (Pather Panchali) الصادر عام 1955.
ومع أن فيلمه يشار له بأنه الفيلم المؤسس للسينما الهندية الموازية، فإنه عادة ما يشار إلى فيلمين قد سبقاه، الأول فيلم “المواطن” (The citizen) الصادر عام 1952 للمخرج “ريتويك جاتاك”، ولم يعرض إلا عام 1977، أي بعد وفاته بعام، والثاني فيلم “فدانان من الأرض” (Two Acres of Land) لرائد من رواد الحركة أيضا، وهو البنغالي “بيمال روي”.
ولا شك أن جميع تلك التجارب تأثرت بحركة السينما العالمية، لا سيما الواقعية الإيطالية يومئذ، فلقد كانت هي الحركة الملهمة والأهم بعد الحرب العالمية الثانية، لذلك يظهر صداها في أفلام رواد الحركة.
نلحظ تأثرا واضحا في فيلم “نهر يسمى تايتاس” بفيلم من الأفلام الرائدة لحركة الواقعية الإيطالية، وهو “الأرض تهتز” (La Terra Trema) الصادر العام 1948 للمخرج “لوتشينو فيسكونتي”، وهو من أول الأفلام التي تمزج بين التسجيلي والروائي، ويرصد معاناة صيادي سمك في قرية تريزا، وكفاح تلك العائلة للعيش في ظروف صعبة، وقد اختار للفيلم لهجة صقلية محلية.
وبوضع السينما الهندية الموازية ضمن تيار السينما الثالثة، نرى أن فيلم “جاتاك” لا ينفصل عن فيلم “الرياح المتقلبة” (Barravento)، للمخرج البرازيلي “غلوبير روشا” (1962) ، ويرصد قبيلة من القبائل البدائية التي تعيش على ساحل بحر، وتكسب قوت يومها من الصيد، كما أنه يستحضر اللهجة المحلية، ويسترجع الطقوس التراثية ويرثي لحال تلك الجماعة.
توضح تلك التقاطعات وجود مبدأ أساسي من مبادئ السينما الثالثة، وهو أنها غير مرتبطة بهوية ولا جماعة ولا جغرافيا، بل هي “موقف واضح” ضد الاستعمار والاستبداد، وهنا نجد أن إيطاليا التي ذاقت مرارة الاستبداد وتحررت منه، لا تختلف عن دول أمريكا اللاتينية التي استعمرتها الولايات المتحدة، ولا تختلف أيضا عن الهند ودول غرب أفريقيا قبل الاستقلال عن بريطانيا وفرنسا.
هجاء الطبقة التي مسخها المستعمر
نجد اتفاقا ضمنيا بين رواد السينما الثالثة على عدة مبادئ، أهمها التحرر من سلطة شركات الإنتاج، وصنع أفلام بمعدات بدائية غير مكلفة، والتصوير بأناس من الشارع، والاعتزاز بالهوية والثقافة واللغة، والوعي بأن اللغة “أداة هيمنة ثقافية” على تعبير “فوكو”، والتبسيط قدر المستطاع للتواصل مع الجمهور، وهذا ما نلمسه كثيرا لدى كل رواد حركة السينما الموازية.
بذلك يتضح إصرار “راي” في بداياته وحتى زمن متأخر على اتخاذ البنغالية لغة رسمية في أفلامه، كذلك نرى عند “جاتاك”، و”ميرنال سين” إلى حد كبير، فهو لم يستخدم الهندية إلا رغبة في نشر أفكاره المحلية عالميا.
يتضح أيضا في ظهور كالكوتا عاصمة البنغال مكانا شاهدا على الأحداث في غالبية أفلام رواد الحركة، لا سيما “ميرنال سين”، كما نرى في “المقابلة” (Interview) الصادر عام 1971، و”مقاتل الغوريلا” (The guerilla fighter) الصادر عام 1973، ثم فيلم “كالكوتا71” (Calcutta71) الصادر عام 1972، وهو جزء من “ثلاثية كالكوتا”، وهي ذات نزعة سياسية وخطابية مباشرة، مع الحفاظ على البنية الاجتماعية للقصة، في محاولة للمزج بين الروائي والوثائقي.
لم يكتف رواد الحركة باستحضار اللهجات المحلية لأفلامهم، بل سخروا من النخب المثقفة، واتخاذهم اللغة الإنجليزية والموسيقى والملابس دلالة على الترقي الاجتماعي والثقافي، سواء انتموا إلى طبقات عليا أو كانوا فقراء.
نلمس هذا في تجارب كثيرة، ففي فيلم “بوفان شوم” (Bhuvan Shome) الصادر عام 1969 للمخرج “ميرنال سين”، نجد بطل الفيلم موظفا صارما في السكة الحديد، ويتحدث الإنجليزية كأنها سمة تميزه عن غيره، ويسأل سائق عربة الثيران عن تحدثه باللهجات المحلية، في نبرة ازدراء واضحة.
الملفت في الفيلم سخرية “ميرنال سين” من بطله، فهو بطل على نقيض بطل المخرج الياباني “أكيرا كورساوا” من فيلمه المشهور “لكي أعيش” (IKIRU) الصادر عام 1952، فلئن كان البطل في فيلم “كورساوا” يترك وظيفته الحكومية بعد سنين كثيرة مدفوعا بالبحث عن معنى لحياته رغبة في نفع غيره، فإن بطل الفيلم الهندي على النقيض تماما.
فهو يأخذ إجازة طويلة من عمله، لكي يتفرغ لنفسه، ويشعر بذاته وتفوقه بعيدا عن دائرة العمل، وهذا ما يظهر في اختياره الصيد هوايةً بالصدفة، وفشله الذريع والمتكرر فيها، لذلك يعكس “سين” مفهومه عن نخب ما بعد الاستقلال في شخص بطله، وهي نخب تقوقعت حول ذاتها، واهتمت فقط بترقيها المجتمعي والثقافي منعزلة عن غيرها.
يتجلى ذلك أيضا في أشهر أفلام “ساتاجيت راي” وأهمها، وهو فيلم “غرفة الموسيقى” (The Music Room) الصادر عام 1958، فيجسد ببطله الإقطاعي رؤيته لتلك الطبقة، فهي منفصلة تماما عن الواقع وغارقة في الماضي. انطلاقا من ذلك أنهى فيلمه بنهاية ملحمية، فنرى المنزل الذي يظن الإقطاعي أنه يحميه بأسواره من الخارج يثور عليه وينقلب، ليشهد نهايته فيه.
وكذلك في فيلم “نجمة وراء الغيوم” (The Cloud Capped Star) للمخرج “ريتويك جاتاك” (1960)، نرى رب الأسرة المصاب بالفصام يتحدث الإنجليزية، بل يراها دلالة على الثقافة والترقي الاجتماعي، المفارقة أنه يظهر طوال الأحداث عاجزا عن كل شيء، ومع النهاية لا يكون إلا عبئا على أهله.
نرى تجليا آخر لتلك الفكرة في فيلم “المقابلة” للمخرج “ميرنال سين”، فقرب نهاية الفيلم، يحضر الشاب “رانجيت” إلى المقابلة بعد عناء، لكن بزي هندي تقليدي، فيزدريه مجلس إدارة الشركة، مع أنه يظهر نباهة وذكاء كبيرين، ولكن لا يُعتد بذلك، فقط لكونه لم يلبس بدلة رسمية، وهي معبرة عن تقليد متوارث خلّفه الاستعمار.
يوجه “ساتاجيت راي” سخرية لاذعة لتلك النخبة أيضا، في فيلمه “لاعبو الشطرنج” (Chess Players) الصادر عام 1977، فيرصد اثنين من ذوي الشأن يلعبان الشطرنج أثناء الاحتلال البريطاني، وبينما يحدث كل ذلك، وبرغم ما يخلفه من فوضى، فإن شغلهم الشاغل يكون إكمال اللعب.
وكأنه يرى أن تلك الطبقة لم تعد تصلح لشيء سوى اللعب، متناسين مشاكل العامة وأمورهم، لذلك كله نرى نخبة تعمد رواد الحركة إثبات إنكارهم المستمر ورفض الواقع المعاش، وهو إنكار لا يفضي إلا لانفصال عن الواقع، فصام تام وعجز في الأخير، كما عند “جاتاك”.
عالم المرأة يلخص مشاكل المجتمع العميقة
في عالم 1973، صدر فيلم “الورطة” (Duvidha) للمخرج “ماني كاول”، وهو يصنف من رواد “الموجة الهندية الجديدة”، التي ظهرت مع بداية السبعينيات، امتدادا لحركة السينما البنغالية (ساتاجيت راي وميرنال سين وريتويك جاتاك).
نرى في الفيلم امرأة ريفية يتركها زوجها طمعا في المال، ثم يقع في حبها جِني، فيظهر بمظهر زوجها، فتختار العيش معه حتى رجوع زوجها، وعند عودة الزوج ومعاقبة أهل القرية للجني يرجع الزوج لبيته، ويفرض على امرأته شروطا قاسية للعيش.
وبتعليق صوتي –كعادة “كاول”– يخبرنا الراوي العليم بأن الزوجة اضطرت لقبول كل ما فرض عليها بعد تلك الحادثة، واختارت ألا تعترض ولا تناقش شيئا، ثم ينتهي الفيلم ونحن نرى عيون الزوجة مغرورقة بالبكاء، مستغرقة في الضعف وقلة الحيلة مع صورة ثابتة لها، وكأن الفيلم لا يرصد امرأة فحسب، بل كل مثيلاتها من النساء.
ولم يكن فيلم “الورطة” فيلمه الوحيد على تلك الشاكلة، فنرى ذلك في أفلام أخرى له أيضا، منذ فيلمه الأول إلى التسعينيات، ففي فيلمه الروائي الطويل الأول “خُبزها” (Uski Rota) الصادر عام 1970، نرى ميلودراما عن زوجة يتركها زوجها ليعيش في مدينة أخرى ويتركها تقاسي.
ثم نراها تقطع مسارا طويلا لتحضر له الخبز والطعام، وهو مع عشيقته يلهو، ويتجلى في مشهد النهاية ظهور متكرر لتلك المعاناة، ممثلا في فتاة أخرى، وتلك إشارة واضحة إلى استمرار تلك المأساة، ومع أن تلك النهاية ذات دلالات متعددة، فإن “كاول” على السطح يشير إلى المأساة الأبدية المُمثلة في المرأة الهندية.
وفي مطلع التسعينيات، صدر فيلمه “هاوية” (Nazar)، ونرى فيه استعباد امرأة فقيرة، أغواها بائع تحف ورهون، فتزوجته في مومباي أملا في الحرية والعيش الرغد، لكن حياتها أصبحت جحيما شيئا فشيئا، وأصبحت مومباي -التي ظنتها خلاصا- مدينة بلاستيكية خانقة، تراها الزوجة من بين السحاب، وتلك إشارة أيضا للنخبة المنعزلة بعد الاستقلال.
وبمعرفة خلفية الزوج العسكرية يتضح أكثر ما يريد “كاول” قوله في كل مرة، والنهاية تؤكد ذلك أيضا، عندما تفتح الزوجة الشباك، وتقف في الهواء بضع ثوان، وتلك اللحظة كثيرة عند “كاول”، كأن الزمن يتوقف فيها، وهي إفادة توكيد على استمرار المعاناة وأزليتها، الحراك من تلك النقطة الفاصلة في تاريخ الهند، وهي لحظة الاستقلال “المتوهم”.
يجسدها أيضا “ريتويك جاتاك” في فيلمه “نجمة وراء الغيوم”، فكما نرى في البداية الفتاة “نيتا” -التي تعول أهلها- تمشي حافية القدمين حتى يتمزق حذاؤها، نرى أيضا فتاة جديدة يحدث لها ذلك، أما “نيتا” فتصبح أسيرة مصحة نفسية، وكأن ذلك الإرث عائق كبير عن مسير النساء، وقدرتهن على الحرية في مجتمع جديد، وهو ما يتمثل في صرخة “نيتا” قبيل النهاية، وفي آخر ظهور لها “لقد أردت فقط أن أحيا”.
نرى وضع المرأة البائس جليا أيضا عند “ساتاجيت راي”، لا سيما في فيلميه “شارلوتا” (Charluta) الصادر عام 1964، و”المدينة الكبيرة” (The big city) الصادر عام 1963.
يرصد “راي” في فيلمه “شارلوتا” امرأة أرستقراطية بعد استعمار الهند رسميا (1870)، يتركها زوجها أكثر الوقت، فتنغمس في وحدتها وتتوحد مع فنها بوجود شريك لها في تلك الوحدة، ومع أن الحكاية بائسة ظاهريا فإننا في الفيلم نرى نوعا من المقاومة، ربما يكون نابعا أولا من رفضه للميلودراما الصاخبة، كما نرى عند “جاتاك” كثيرا، وعند “كاول” مثلا في فيلمه الأول.
وثانيا هو نابع من قناعة بأن المرأة لم تعد في ذلك الوضع الذي كانت عليه قبل الاستقلال، بإسقاط حقبة زمنية مضت على حاضر يأمل فيه “راي” خلاصا مؤقتا.
تتأكد تلك الرؤية في فيلمه الآخر “المدينة الكبيرة”، فنرى الفتاة المتزوجة “آراتي” وقد خرجت للعمل في مدينة كالكوتا، ومع أن رب الأسرة يعترض، لا سيما بعد تفوقها الواضح في العمل، فإنها تستمر بدأب في عملها، وحين تترك في النهاية عملها تبدأ مع زوجها البحث عن عمل معا، وتلك نظرة تفاؤلية يأملها “راي” في حاضره.
اقتباسات الأدب تشع في سماء السينما
في عام 1943، وقعت حادثة مأساوية في إقليم البنغال، أثناء الاحتلال البريطاني، عرفت باسم المجاعة البنغالية، وذلك إثر قرار اقتصادي من بريطانيا، ينص على تصدير محاصيل الهند، بدلا من محاولة الاكتفاء المحلي الذاتي.
أتى ذلك القرار أيضا خوفا من سيطرة اليابانيين على الأماكن الساحلية، وفرض هيمنتهم في ظل الحرب العالمية الثانية، وقد توفي ما بين مليونين وثلاثة ملايين، بسبب التجويع وسوء التغذية والأمراض.
نلمس هذا الأثر في غالبية أفلام الحركة، فمهما اختلفت أفكارها ومواضيعها، فهي تدور أساسا حول الفقر وضيق المعيشة والظلم، وليس ذلك بسبب المجاعة فقط، وقد صورها “سين” في فيلمه “في البحث عن المجاعة” (In search of famine) عام 1981، بل لأن الفقر كان أمرا واقعا بعد الاستقلال، وكان من الصعب الترقي مجتمعيا في ظل تلك الظروف.
ومن هنا أتت أصالة الموضوع التي تتجلى أيضا في اختيار رواد الحركة الأدب، ليقتبسوا منه قصصهم، وهو الأدب الهندي والبنغالي.
بدأ ذلك من فيلم “أغنية الطريق” للمخرج “ساتاجيت راي”، وهو مقتبس من رواية للكاتب البنغالي “بيبهوتي بوشان”، ثم تلته تجارب عدة لكل روادها، فنرى راي يقتبس من الكاتب “روبندرونات طاغور” قصة “العش المكسور” في فيلمه “شارلوتا”.
ونرى “جاتاك” يقتبس في فيلمه “نهر يسمى تايتاس” من رواية الكاتب البنغالي “أديتا بهادوري”، ونرى “كاول” يقتبس من قصة شعبية قصيرة للأديب الهندي “فيجا دان دياثي” في فيلمه “الورطة”.
إن اختيار رواد الحركة الاقتباس من الأدب البنغالي والهندي ليس خيارا جماليا، بل في مضمونه تعبير عن رفض “الاستشراق” بتعبير الكاتب الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، فكان ذلك نابعا من رغبة حقيقية في داخلهم بأن يقتبسوا من أدب محلي، موجه في الأساس لمن يخاطبونهم وبنفس اللغة والمواضيع، وهو ما يثبت أصالة رواد الحركة واعتزازهم بالهوية، ورغبتهم الدائمة في استحضارها.
لذلك نلحظ أن أكثر أفلامها كانت مقتبسة من قصص أدبية من الهند والبنغال. والجدير بالذكر أن “كاول” في زمن متأخر ابتعد عن ذلك النهج، فاقتبس من الكاتب الروسي “فيودور دوستويفسكي” قصتين، هما المخلوق الضعيف في فيلمه “هاوية”، والأبله بفيلم يحمل نفس الاسم صدر عام 1971، وقد شارك فيه الممثل الشهير “شاه روخ خان” بدور ثانوي.
حركة واحدة ومدارس متعددة
يتقاطع رواد الحركة في الأفكار والمواضيع، لكن أساليبهم مختلفة، فنرى “ساتاجيت راي” يميل للواقعية الاجتماعية بحس إنساني شديد الرقة، مع أنه يكسر ذلك في أفلام منها “لاعبو الشطرنج”، و”البطل (The hero) الصادر عام 1966.
يركز راي على اللقطات الواسعة والموضوعية، وهو الأقرب للواقعية الإيطالية، هو و”ريتويك جاتاك”، ويختلف “جاتاك” في كونه يميل للواقعية الشعرية، فنراه يمزج الواقع بالأسطورة، مع نبرة مسرحية وميلودرامية واضحة في أفلامه، وميل لتصوير الطبيعة.
أما “ميرنال سين” فنراه ذا نبرة سياسية ساخرة حادة، مقتديا بالموجة الفرنسية، ولا سيما المخرج “جودار” وفيلمه “الصينية” (La chinoise) الصادر عام 1967، وقد مزج فيه بين الروائي والوثائقي، منطلقا من التغريب البريختي نهجا.
ظهر ذلك في ثلاثية “كالكوتا” التي أخرجها “سين”، فنرى الشخصيات تتحدث للكاميرا مباشرة وتحكي عن نفسها، يتجلى ذلك في فيلم “المقابلة”، حين يوجه “رانجيت” كلامه للكاميرا، ويقول إنه ليس ممثلا بل صحفيا، وقد اختاره المخرج لتأدية الدور، ويطالب المشاهد بألا يصدق كل ما يرى، ثم يتجلى ذلك في النهاية في خطاب يدين الظلم والفقر، فيصبح مجسما لا روح له، كما يريد المجتمع والسلطة منه، نتاجا طبيعيا للحداثة.
للمخرج “سين” طريقة مميزة في تقديم شخصياته أيضا، فهو يقدمهم بطريقة كاريكاتورية، ويتجلى ذلك في فيلم “بوفان شوم”، فنرى رسوما كارتونية لمكتب “بوفان”، مع تعليق خارجي يصف لنا حياته اليومية.
وعلى نقيض “سين” تماما يكون “كاول”، فنراه يقدم شخصياته بحذر واقتصاد تامين، مقتديا بالمخرج الفرنسي “روبرت بريسون” (تصريح سابق شهير له). فنراه يركز على اللقطات الثابتة من الأيدي والرؤوس، وكأنه يرسم شخصية شبحية.
كما يتميز “كاول” بالتعليق الصوتي الخارجي على الأحداث والشخصيات، فيلغي وجهة النظر الذاتية، ويفرض سلطة الراوي العليم، بما لا يدع مجالا للتأويلات، ويظهر ذلك تحديدا في مشاهد الحديث بين الرجل والمرأة، إذ يلغي “كاول” شريط الصوت بينهما، ويصبح التعليق خارجيا، وكأن الحاجز بينهما داخلي، فيكون الحوار أشبه بمناجاة طويلة داخلية لن تُدرك.
- نشرت المقالة بموقع الجزيرة الوثائقية بتاريخ 29 يوليو لعام 2025
تعليقات
إرسال تعليق