في السنوات الخمس الأخيرة قوبلت السينما الإيرانية بحفاوة كبيرة في المسابقات الدولية، كما أصبحت محط الأنظار كلما أعلن عن اختيار فيلم إيراني جديد في المسابقة الرسمية لأي من المهرجانات الكبرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر شارك كل من "عنكبوت مقدس -Holy spider " و "أخوات ليلى – Leila’s brothers " الصادران في نفس العام في المسابقة الرسمية لمهرجان كان لعام 2022، وفي العام الماضي شارك فيلم "كعكتي المفضلة - My favorite cake " في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين. وهذا العام تعود السينما الإيرانية بقوة مُمَثلة في واحد من أعلامها الذين برزوا في التسعينات وهو "جعفر بناهي" بفيلمه
"حدث بسيط – It was just an accident "، وقد فاز عنه جعفر بالسعفة الذهبية، ليكون بذلك قد حصد الثلاثة الكبار، الأسد الذهبي في مهرجان فينيسا عام 2000 عن فيلمه "الدائرة – The circle " و الدب الذهبي في مهرجان برلين عام 2015 عن فيلمه "تاكسي" ليتمهم هذا العام بالسعفة عن فيلمه الأخير.
لا يمكن الحديث عن الاحتفاء بالسينما الإيرانية المعاصرة – وببناهي - ومن قبله أصغر فرهادي وعباس كيارستامي ومجيد مجيدي – وجميعهم قد نالوا جوائز عالمية بدءً من كان ومرورا بالأوسكار وغيرهم من الجوائز- دون الرجوع لسياق المجتمع الإيراني; ظروفه وتقلباته السياسية والاجتماعية، خاصة من بعد الثورة التي قامت على الشاه في العام 1979 ورجوعًا إلى منتصف القرن الماضي.
الخمسينيات والشعلة المبكرة للثورة
في كتابه "مدافع آية الله" يحيل الصحفي والمؤرخ المصري محمد حسنين هيكل شرارة الثورة الإيرانية وبداية زعزعة حكم الشاه إلى العام 1951 حينما قرر رئيس الوزراء "محمد مصدق" تأميم النفط، ليغضب القرار بريطانيا التي كانت مهيمنة على النفط من خلال الشركة "الأنجلو إيرانية"، فيتم التعاون بين بريطانيا وأمريكا ليكونا سبب في الانقلاب الذي حدث ضد مصدق في العام 1953، ليعود الشاه بعدها "محمد رضا بهلوي" ويحكم بقبضه من حديد. بعد سنين وفي العام 1963 أصدر بهلوي بضعة قرارات "إصلاحية" تحت راية ما سمي ب "الثورة البيضاء" حيث رأى أن من شأنها وضع المجتمع الإيراني على الساحة الدولية سياسيا واجتماعيا، ليغضب بتلك القرارات المجتمع الإيراني المحافظ، المعتد بهويته وثقافته. وكان من أبرز الثوار ضد تلك القرارات "أية الله الخميني" والذي وصفها بأنها ليست إلا مصالحة وانبطاح مع الغرب فيما اتهم الشاه بالعمالة للغرب، نتيجة ذلك تم اعتقال الخميني ومن ثم نفيه إلى الخارج في العام 1964.
وفي محاضرة بعنوان "النباهة والاستحمار" يقول الكاتب والمفكر الإيراني علي شريعتي أن نظام الشاه عمل من ناحيتين ; أولهما هو تغييب المواطن الإيراني وإبعاده عن كل من "الدراية الإنسانية" و"الدراية الاجتماعية" وبذلك استطاع بسهوله أن يساق إلى ما سماه شريعتي ب"الاستحمار"، الاستحمار عند شريعتي هي آلية شائعة في دول العالم الثالث المحكومة من الدول الشمولية أو سلطة ديكتاتورية وبذلك فهي آلية نابعة من الحكم الأوتوقراطي، وقدد حدد لها شريعتي نوعان، قديم وحديث، فيما عد ما يحدث في زمن الشاه هو نوع من الاستحمار الحديث، وهو أن ينشغل العامة بما تفرضه السلطات وتعده صالحًا ولكن بمعاييرها، لذلك رأى شريعتي أن نظام الشاه ماهو إلا مجرد امتداد للاستعمار، في ظاهره ينادي بالحداثة والعلم والتحضر وفي باطنه فهو لا يأمل إلا محو الهوية والتراث.
السينما الإيرانية الجديدة : حركة سينمائية ضد الحداثة والتغريب
في تلك الفترة كانت صناعة السينما متوائمة مع فكر الشاه، فكانت سينما تجارية بلا روح أو هوية، متماشية مع الذوق العام العالمي، على الجانب الآخر ومع بداية الستينيات ومنتصفها بدأت حركة سينمائية موازية، وبدا صانعوها واعون للخطر المحدق بالمجتمع الإيراني المسمى بالإصلاح.
عد فيلم "مرآة وطوب – "The brick and the mirror" الصادر عام 1966 ومن إخراج إبراهيم كلستاني، من الأفلام المؤسسة للسينما الإيرانية الجديدة، وهي سينما نشأت جذورها في الستينيات- وليس كما يشاع أنها بدأت بعد ثورة الخميني على الشاه في نهاية السبعينيات، وكان من أبرز أعمالها فيلم
"المنزل أسود – The house is black -" الصادر عام 1962 للشاعرة فروغ فرخزاد، وفيلم كلستاني، وفيلم "البقرة -The cow" الصادر عام 1969 للسيد داريوش مهرجوي.
الملفت هو تزامن تلك الحركة مع بدء الحركات "الإصلاحية" التي بدأها محمد رضا بهلوي (الشاه) باسم الثورة البيضاء، فإن كان بهلوي- بتعبير شريعتي- قد فرض استحمارًا حداثيا على المجتمع الإيراني في تلك الفترة، مما أدى إلى تغريب كامل وبعد عن الهوية، فإن تلك الحركة السينمائية كانت تؤكد على وجود مقاومة ما قد تنبه لها صناع السينما مبكرًا وعبروا عنها.
وفي فيلم "مرآة وطوب" نرى سائق التاكسي (هشام) يفاجئ ليلًا بطفل رضيع يبكي في الكنبة الخلفية لسيارته، تركته أمه وحيدًا وهربت، ويقاسي هشام الأمر وحده لشعورة بالمسؤولية تجاه الطفل المتروك حتى يلاقي صديقته "تاجي" ويفكران في إيواء الطفل. ومع محاولتي مقاربة الفيلم بالسينما العالمية وجدت تشابهات عديدة بينه وبين فيلم "سائق التاكسي – Taxi driver " لمارتن سكورسيزي والصادر بعد فيلم كلستاني بعشرة سنوات، فيشتركان في عمل البطل، شعوره بالسأم تجاه مدينته، شعوره بالمسؤولية تجاه الطفل وهو نفسه شعور ترافيس تجاه الفتاة التي يقابلها في فيلم سكورسيزي، وفي الأخير الرغبة الكامنة في الخلاص، حتى أنهما يشتركان في موتيفات بصرية عديدة.
ويظهر سخط كبير متخفي في فيلم كلستاني فيكون الرضيع المتروك - ممثلا للمستقبل- بلا هوية أو ملجأ، في حين يرفض الجميع مسؤولية البحث عن أهله أو إيوائه، هنا يؤكد كلستاني على خطورة تلك النزعة الفردانية التي ولدتها الحداثة الغربية، يدينها، لأنها في نظره قد وضعت المجتمع الإيراني على الحافة بفقدانه المسؤولية الفردية والجماعية وهو ما يتجلى في المشهد الأخير في الفيلم، بوقوف تاجي (صديقة البطل) منهارة في ممر ملجأ الأيتام في حين يتركها هشام ويمشي وحيدًا ليقف أمام فاترينة بها الكثير من التلفزيونات تعرض برنامجًا أجنبيًا، المتحدث فيه ينادي بأهمية الاعتداد بالذات وضرورة وجود نزعة فردانية.
نرى ذلك بشكل أكثر قسوة في فيلم البقرة لمهرجوي، المقتبس عن قصة للكاتب الإيراني غلام حسين ساعدي، والذي عرض في مهرجان فينيسا عام 1971 وحصد جائزة النقاد، ليعده البعض الفيلم المؤسس للواقعية الإيرانية، فبجانب البيئة شديدة الخصوصية للفيلم وموضوعه، حرك الفيلم المياه الراكدة بعرضه في فينيسيا ولفت أنظار العالم أجمع للسينما الإيرانية وخصوصيتها، وفي الفيلم نرى الفلاح ماشتي يصاب بالجنون الكامل نتيجة موت بقرته - التي لا يرى هويته/ فاعليته- في شيء سوى خدمتها، حتى أنه يقبل التسليم بكونه بقرة، أي شيء غير أن يكون إنسانًا، في مجتمع مقبل على فقدان إنسانيته، وهو تنبؤ نابع من تشاؤم تجاه ما سيقبل عليه المجتمع الإيراني، ولذلك عد الفيلم طليعيًا بالنسبة لوقته، لدرجة أنه أعجب الشاه في البدء ثم قام بمنعه بحجة أنه يعطي صورة سيئة عن المجتمع الإيراني في حين عبر الخميني عن إعجابه بالفيلم فيما بعد.
وبالمثل كان فيلم فرخزاد، وهو فيلم على نقيض الميلودراما تماما، كما أنه لا يحتفى بالقبح / رمسنته، بل من خلال أرض المجزومين يعيد طرح سؤال جوهري؛ هل نحن مجبورون على عيش حياة لا نملك فيها خيارًا؟
المزج بين التسجيلي والروائي: على خطى السينما الثالثة
رغم التقلبات السياسية والاجتماعية التي اجتاحت المجتمع الإيراني في السبعينيات بالإضافة للقمع والخناق إلا أن ذلك لم يمنع صناع السينما من المضي في طريقهم، فظهرت وجوه جديدة من المخرجين تُدعّم ما بناه مخرجو الستينيات، مثل عباس كيارستامي وبهرام بيضائي وسوهراب شاهيد ساليس وغيرهم. وتبنى أولئك في سينماهم قصص بسيطة، مؤثرة وإنسانية في المقام الأول، فيما غلب على سينماهم الأسلوب التوثيقي، وهو ما تبناه مخرجو السينما الثالثة في أمريكا اللاتينية ودول غرب أفريقيا والهند في الخمسينيات والستينيات مما يتلاءم مع إمكانياتهم ورغبتهم في توثيق حقيقة ما يقاسونه لا غير، فمثلا نرى في فيلم "حياة رتيبة –Still life " لسوهراب شاهيد ساليس، والصادر عام 1974 كيف تتغير حياة عامل محطة السكة الحديد من حياة بائسة ورتيبة إلى حياة أكثر بؤسا ورتابة نتيجة قرار تعسفي بفصله بعد قضائه أكثر من ثلاثين عامًا في عمله، ليتم استبداله بعامل جديد أكثر شبابًا. من خلال تلك القصة البسيطة جدًا في ظاهرها تظهر سمات عديدة لحركة السينما الإيرانية الجديدة، الانتقاد السياسي والمجتمعي اللاذع ولكن بخفة لا تُحس، ففي الفيلم نستشف صراعًا بين القديم والجديد، نلتمس آثار البيروقراطية التي يروح البطل ضحية لها ولا يستطيع استرداد حقه أو إيجاد مأوى لأسرته، فيما يغلب الطابع التوثيقي على الفيلم.
يتمثل ذلك في أفلام عباس كيارستامي الأولى أيضًا، والتي أنتجها معهد "كانون" (مركز تنمية الأطفال والمراهقين) فنلحظ الأسلوب التسجيلي الطاغي على سينما عباس في تلك الأفلام " الخبز والزقاق – The bread and the alley " و " التجربة – The experience " و " المسافر – The traveler " ويتجلى ذلك بشكل أكثر إحكامًا والتباسًا أيضا في أفلام تالية لعباس في التسعينيات، كما نرى في ثلاثية كوكر
"أين منزل صديقي؟ - Where is my friend’s house " و " الحياة ولا شيء آخر – Life, and nothing more " و "عبر أشجار الزيتون – Through the olive trees "، وفي فيلم "عن قرب – Close – up "
وهي جميعها أفلام يصعب التفرقة فيها بين الواقعي والمصور أغلب الوقت، ولم يُجد عباس الأمر وحده بل نراه ممتدًا لآخرين، مثل جعفر بناهي في فيلمه الروائي الطويل الأول
" البالون الأبيض – The white ballon " الصادر عام 1995، كتب كيارستامي سيناريو الفيلم، وقد حصل الفيلم وقتها على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان، يتماس الفيلم مع آخر فرنسي وهو "البالون الأحمر – The red Ballon " لآلبير لاموريسي، ولكن ما يميز فيلم بناهي هو الطابع الإيراني الأصيل للحكاية والذي يؤكد عليه بناهي باختياره نهاية مفتوحة، وهي ليست سعيدة في الغالب، على عكس فيلم لاموريسي، الذي ينتهي بشكل ميلودرامي واحتفائي ساحر. على نفس الخطى كان فيلم "لحظة براءة – A moment of Innocence " الصادر عام 1996 لمحسن مخملباف، والذي يحكي من خلاله مخملباف حادثة قديمة له، في مزج بين الأوتوجراف والروائي، ويتميز الفيلم بخصوصية شديدة نظرًا لشجاعة مخرجه في انتقاد نفسه وحماسة شبابه في المقام الأول ومن ثم التطرق شيئًا فشيئًا للنقد المجتمعي والسياسي وبأسلوب شاعري بسيط في ظاهر القصة – ومركب في بنيته – في أنٍ واحد.
يؤكد انتهاج ذاك الأسلوب على شيئين; أولهما رغبة صناع السينما في توثيق صورة حقيقية لمجتمعهم تؤكد على أصالته وهويته، وواقع ما يعيشون كما هو موجود وليس كما يأملون بالضرورة، الثاني هو قلة إمكانياتهم والتضييق الذي كانوا يعانونه لصناعة تلك الأفلام، وهو ما يظهر في اختيارهم للأماكن والديكورات وحتى التقنيات المستخدمة.
الأطفال يكتشفون العالم : سينما مطرزة بالبراءة
لقد وصف كاتب السيناريو الفرنسي جان كلود كارييه سينما كيارستامي بأنها سينما "مطرزة بالبراءة" وهو التوصيف الذي اختاره الناقد أمين صالح ليكون عنوانًا للكتاب الذي تناول فيه مسيرة وأفلام كيارستامي. البراءة مرتبطة بالطفولة، كذلك الدهشة والرغبة في اكتشاف العالم، الفضول طفولي وأصيل جدا في الإنسان، وهو ما ينبهنا له كيارستامي دومًا في سينماه، وفي فيلمه "أين منزل صديقي" تحديدًا، يتضح أن طفل كيارستامي يتجاوز الخاص ليصل إلى العام والشامل، فالفكرة التي ينطلق منها كيارستامي في فيلمه، من خلال شعور أحمد بالمسؤولية ومن ثم رغبته بإيصال كراسة الواجب لصديقه أحمد، هي تنبيه في المقام الأول لضرورة وجود الضمير الإنساني، لذلك فتيه الطفل رغم كونه بسيطًا بين البيوت والحارات التي لا يعرفها فهو لا يعد مجرد تيه لطفل صغير بل يعبر عن مجتمع وإنسانية بأكملها في طريقها للضياع، هنا نداء لليقظة، نزعة وجودية تتجلى في النهاية، حين يفتح الطفل كراسته ليجد زهرة صغيرة، هنا يكمن إيمان عباس بالإنسانية متمثلة في الطفل أحمد الذي رأى في إيصال كراسة صديقه واجب أخلاقي وهدف في الحياة.
لم يقتصر رصد الأطفال على كيارستامي، فلقد صور سوهراب ساليس فيلمه المبكر "حدث بسيط – A Simple event " الصادر عام 1973 الذي نرى فيه معاناة أسرة من زوج وزوجة وطفل صغير بينما نرى معاناة الأسرة وما تقاسيه الطبقة العاملة جميعها في بيئة فقيرة من عيون الطفل. نرى ذلك أيضا في أفلام مثل " الصمت – The silence " لمحسن مخملباف، و "أطفال الجنة - Children of heaven " لمجيد مجيدي، وفيلم بناهي (البالون الأبيض) وغيرهم من الأفلام، ولم يكن تصوير الأطفال نابعًا من دافع عاطفي أو إنساني بحت، بل رأى مخرجو الواقعية الإيرانية أن قصص الأطفال رغم كونها بسيطة ظاهريًا إلا أنهم يستطيعون من خلالها نقد وتفكيك المنظومة بأكملها، وبدون الاصطدام المباشر بالسلطة خاصة بعد التضييق الذي طال السينما بعد الثورة الإيرانية.
سينما ما بعد الثورة – بين التضييق الداخلي والاحتفاء العالمي
بعد نفيه خارج البلاد عام 1964 حرّض الخميني على الثورة طوال مدة نفيه للخارج ومن العام 1977 وحتى عام 1979 اندلعت الكثير من المواجهات - بين الشعب مُمثلًا في رجال دين وطلاب وعمال ومثقفون - وبين الطبقة الحاكمة، مما أدى إلى هروب الشاه ورجوع الخميني إلى إيران ومن ثم توليه الحكم.
لم تكن نظرة الخميني إلى السينما نظرة منصفة، فلقد رآها – كرجال الدين المتشددين- فنًا فاسدًا- وهو نتاج المنظومة الغربية، لكن بعد استقراره في الحكم كان واضحًا تجاه السينما، فصرح قائلًا
" السينما يجب أن تخدم الشعب الإيراني، ولا يجب تتنافى مع الفكر الإسلامي والثورة" بذلك نادى الخميني ب "سينما إسلامية" ولم يكن ذلك صادمًا لأنه وبعد توليه الحكم لم تستطع أي من الفئات الأخرى الإدلاء بصوتها أو المشاركة في الحكم سواء من اليسار أو غيرهم، مما أدى إلى نشوء ما سمي ب "ولاية الفقية". بناءًا على ذلك غادر المخرجون إيران على مدار السنين نتيجة المنع والتضييق، مثل بهرام بيضائي وسوهراب شاهيد ساليس وشيرين نشاط انتهاءًا بمحسن وعباس اللذان سئما وحاولا صنع أفلامهم في الخارج مع نهاية العقد الأول من الألفية.
لم تختلف صناعة السينما ما قبل ثورة في السبعينيات عن ما بعدها، فلقد برزت الكثير من التجارب الواعدة في التسعينات، الأفلام آنفة الذكر لكل من عباس كيارستامي ومحسن مخملباف وجعفر بناهي ومجيد مجيدي، وبرزت أسمائهم في المهرجانات العالمية مثل تورونتو وفينيسا ولوكارنو وكان وحتى الأوسكار، توج فيلم بناهي "البالون الأبيض" بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان، وفاز فيلم عباس "أين منزل صديقي ؟ " بجائزة النقاد الدولية في لوكارنو، و فيلمه " ستحملنا الرياح" بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم بمهرجان فينيسا، في حين ترشح فيلم "أطفال الجنة" لمجيد مجيدي للأوسكار، فاز عباس بالسعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلمه "طعم الكرز – Taste of cherry " وفاز بناهي بالأسد الذهبي في مهرجان فينيسا عن فيلمه "الدائرة – The circle ".
يؤكد كل ذلك على مدى براعة وذكاء مخرجين إيران في تلك الفترة، فبرغم التضييق، وفرض القيود المجتمعية والسياسية والدينية لم يمنعهم ذلك من التعبير عن أنفسهم، والجدير بالذكر أن المجتمع الإيراني لم يكن قبل الثورة مجتمعًا منفتحًا بالصورة المتخيلة عنه، فمثلما نرى في فيلم كلستاني "مرآة وطوب" ملاهي ليلية وخمور ودخان فيما تظهر النساء بشعرها وجسدها في مشاهد حميمية فعلى النقيض صورة أخرى للمجتمع الإيراني في فيلم داريوش مهروجي "البقرة" والفارق بينهما كان أقل من أربع سنوات. يؤكد ذلك على مدى تنوع المجتمع الإيراني في تلك الفترة وخصوصيته، من المدينة إلى الريف ومن التحفظ إلى الانفتاح، في صراع بين القديم والجديد، الحداثي والأصولي، لذلك لم يكن كل المخرجون معارضين للثورة مثلًا، مثل محسن مخملباف، الذي كان داعمًا للثورة حتى منتصف العقد الأول من الألفية.
يشير ذلك إلى أن الأزمة لم تكن دينية فقط، بل كانت متجلية أكثر في القمع السياسي، ووصل الأمر أشده حين سجنت السلطات كل من جعفر بناهي ومحمد رسولوف في عام 2010، إثر تصويرهما فيلمًا عن المظاهرات التي تلت إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية. وصدر حكم عليهما بالسجن ست سنوات ليخفف بعدها إلى عام واحد، بالإضافة إلى منعهما من صناعة الأفلام لمدة 20 عام. بعد خروجهما من السجن ظلا يصنعان الأفلام في السر، رغم التضييق كانت تلك الأفلام هي أكثر أفلامهما شهرة كما حازت على جوائز في المهرجانات الكبرى، لذلك نرى حالة خاصة متمثلة في فيلم " هذا ليس فيلمًا – This is not a film " لبناهي الذي عرض في مهرجان كان عام 2011، والذي صنعه بناهي تحت الإقامة الجبرية في منزله ويقال أنه أرسله للمهرجان في فلاشة وضعت في تورتة كبيرة، كما فاز فيلمه "تاكسي" الصادر عام 2015 بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين، في حين فاز فيلم رسولوف " رجل نزيه – A man of integrity " الصادر عام 2017، بجائزة "نظرة ما " في مهرجان كان، وفاز فيلمه "لا يوجد شر – There is no evil " الصادر عام 2020 بجائزة الدب الذهبي في برلين.
بعد حصوله على الجائزة زاد الخناق على رسولوف واعتقل بعدها عام 2022 بتهمة التحريض على النظام، وحكم عليه عام 2024 بالسجن ثمان سنوات، ولكنه هرب إلى أوروبا قبل تنفيذ الحكم، وقد عرض فيلمه "بذور التنين المقدس -The seed of sacred fig" في مهرجان كان في نفس السنة، وهو فيلم قد صنعه في إيران قبل هروبه، وجدير بالذكر أن بناهي تم اعتقاله أيضًا عام 2022 أثناء متابعته لقضية رسولوف، وقد خرج من السجن عام 2023 بعد احتجاجه وامتناعه عن الطعام، ليخرج ويصنع فيلمه الأخير
" حدث بسيط" ليصيد به السعفة الذهبية.
ربما تشير كل تلك الصعوبات للكيفية التي حظت بها السينما الإيرانية على مكانتها العالمية، وتفسر أهمية وجود مقاعد محجوزة كل عام للأفلام الإيرانية، نظرًا لصعوبة صناعتها في البدء ومن ثم قدرة مخرجيها على التعبير في أضيق الحدود، وبصدق. وبأخذ أفلام المخرج أصغر فرهادي كنموذج على ذلك ربما تضح حيثيات فوزه بجائزتي أوسكار عن فيلمه " انفصال – A separation " الصادر عام 2011، وفيلمه
" البائع – The sales man " الصادر عام 2016، وبأخذ فيلم انفصال كنموذج - والذي أتى عرضه عقب الحكم على كل من بناهي ورسولوف – يكون المستوى الأول، وهو الحيثية السياسية، وعلى مستوى آخر توجد الخصوصية المحلية للمجتمع الإيراني، والتي تجعل من موضوعاته مادة مثيرة للاطلاع، لأنها دومًا جديدة على المجتمعات الغربية، فهي نتيجة لإرث كبير، وتاريخ طويل من الصراع.
- نشرت المقالة على موقع الجزيرة الوثائقية، بتاريخ 1 يونيو لعام 2025
تعليقات
إرسال تعليق