في خمسينيات القرن الماضي في البرازيل ومع هيمنة سينما “التشانشادا – “Chanchada - المسيّسة – لعقدين- بجانب انتشار المواضيع التاريخية القومية المبالغة في عاطفتها- كان لابد من ظهور حركة سينمائية مضادة ترصد واقع المجتمع البرازيلي من فقر ومجاعات واستبداد، وتنفي بدورها صورة الواقع المُجمَل الذي يتم تصديره للخارج عن طريق السينما.
أصول التشانشادا وارتباطها بثقافة المستعمر
"التشانشادا" هو مصطلح مشتق في الأصل من البرتغالية ومعناه "الشيء المبتذل والفوضوي". أُطلق المسمى على أفلام تلك الفترة لأن الكوميديا السطحية والمبتذلة كانت غالبة عليها، ولم يكن ذلك جديدًا على السينما كفن، فلقد كانت التشانشادا في البرازيل كمثيلتها في إيطاليا، التي أنتجت ما عٌرف بأفلام "التليفونات البيضاء" في عهد الفاشية في الثلاثينيات- وقدمت حينها صورة مغلوطة عن المجتمع الإيطالي، مثلها مثل السينما المصرية في الثلاثينيات والأربعينيات، بهيمنة الأفلام الغنائية والاستعراضية عليها، فيما عرف ب "سينما الكبارية".
ورجوعًا إلى كتاب "هذا هو الدف" لسيرجيو أوغوستو، مرت التشانشادا بمرحلتين، الأولى انطلاقًا من الثلاثينيات وحتى بداية الأربعينيات، وكانت عبارة عن محاكاة ساخرة وهزلية لسينما هوليوود التجارية، وكانت أفلام ذات جودة بدائية ورديئة غلب عليها الارتجال، والمرحلة الثانية أتت من بداية الأربعينيات وحتى نهاية الخمسينيات، وهي المرحلة التي يشاد بها كمثال على تطور التقنية والموضوعات في السينما البرازيلية، ورغم احتفاظها بالقوالب الكوميدية والاستعراضات، فلقد حاول روادها في تلك الفترة تقديم نقد سياسي واجتماعي، في حين حاولوا الابتعاد عن الارتجال مع تطوير تقنياتهم وأدواتهم، ولكن لم يكن ذلك كافيًا للتعبير عن هموم غالبية الشعب البرازيلي في نظر رواد سينما نوفو.
وسواء كانت التشانشادا أو التليفونات البيضاء أو سينما الكبارية، فكل منهم كان نتاجًا إما لسيطرة الاستعمار الأجنبي بهدف محو الهوية، وإما بقصدية من سلطة استبدادية أرادت إلهاء العامة. لذلك نلحظ وجود سمات مشتركة جمعت بين تلك الأفلام رغم اختلاف الثقافات والجغرافيا، فنجدها في الغالب ارتكزت على تناول مواضيع سطحية، مع غلبة الكوميديا والاستعراضات، فيما ركزت على رصد طبقات بعينها، متجاهلة السواد الأعظم من الشعب، وهي الفئات الغالبة التي كانت تعاني.
بالتالي كان انتشار هذه المواضيع في تلك الفترة في البرازيل عوضًا عن المواضيع الجادة والحقيقية انتشارًا مفهومًا، خاصة وأن عملية الإنتاج كانت خاضعة لهيمنة استديوهات بعينها، مثل ستديو "Atlântida Cinematográfica" وهو أشهر استديوهات تلك الفترة في البرازيل، والذي عد باكورة إنتاجاته فيلم مثل "Carnaval Atlântida" وهو فيلم معبر عن الاتجاه السائد في ذلك الحين.
التحول والتمرد وإرهاصات سينما نوفو
في تلك الفترة كانت تمر البرازيل بداية من منتصف الأربعينيات بعد الانقلاب على حكومة فارجاس الديكتاتورية- بتقلبات سياسية كثيرة أدت إلى تخبط وخلافات سياسية ودينية واقتصادية، مما أدى إلى إعادة تفكير في كل من الأفكار والقيام الكبرى، الروحية والمادية.
تزامن ذلك مع تطور صناعة السينما، سواء على مستوى المواضيع مثل ما حدث في أفلام الواقعية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية، أو التطور التقني والجمالي في فرنسا في الخمسينيات والستينيات مع حركة السينما الفرنسية الجديدة ليترتب على ذلك كله مع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات في البرازيل تَبلوُر حركة سينما نوڤو، التي تأثرت بما قبلها، فنلاحظ تأثرًا بالواقعية الإيطالية في اختيار المواضيع واللقطات الطويلة ذات الأحجام الواسعة، ومن الناحية الأسلوبية والإيقاع تأثر بالفرنسية الجديدة، من تصوير خارجي وخطوط سردية متوازية وإيقاع سريع أحيانا.
وعُدَ " نيلسون بيريرا دو سانتوس – Nelson Pereira dos Santos " رائدًا للحركة بفيلمه الصادر عام 1955، وهو فيلم "Rio, 40 Graus" والذي مهد الطريق لمن بعده من المخرجين مثل " جلوبير روشا – Glauber Rocho "، و " روي جويرا – Ruy Guerra " و "باولو سيزار سارسيني - Paulo Cesar Saraceni " و " كارلوس دييغيس - Carlos Diegues " و جواكيم بيدرو اندرادي – Joaquim Pedro De Andrade " وغيرهم.
كل هؤلاء بدأت أعمالهم في الظهور للعالم مع بداية الستينيات، وخاصة عندما عرضت ثلاثة أفلام من سينما نوفو في مهرجان كان السينمائي عام 1962، وهم “Black god white Devil “ لجلوبير روشا،
و “Barren lives” لنيلسون بيريرا، و “ Ganga Zumba “ لكارلوس دييجيس.
تشابكت أفلام رواد الحركة في عدة مواضيع واشتركت في بعض السمات، والتي نرى أغلبها في فيلم بيريرا المؤسس، مثل رصد معاناة سكان الأحياء الشعبية في المدن الكبرى للبرازيل، فنرى بيريرا في فيلمه يرصد معاناة أربعة أطفال بينما يقاسون لكسب قوتهم اليومي، وهو ما نراه ممتدًا فيما بعد في عدة تجارب له أيضًا، متمثلًا إما في رصد معاناة الأطفال وحدهم أو رفقة أسرهم الفقيرة، وهو ما نراه في أفلامه مثل
" Barren lives و Rio, zona norte"
ويلحظ في سينما بيريرا الأسلوب التسجيلي \ التوثيقي، خاصة في أفلامه المبكرة تلك، ويرجع ذلك إلى عمل بيريرا كمصور صحفي في الفترة التي سبقت عمله كصانع أفلام، بالإضافة لتأثره بالحركات السينمائية في ذلك الحين، خاصة الواقعية الإيطالية، والتي قال بيريرا عنها أنها أقرب ل "واقعية حديثة" ورأى بيريرا أن تلك الواقعية مناسبة أكثر للدول التي لا يتوفر بها إمكانيات، فمبجرد إمساك المخرج \ المصور لكاميرا يستطيع حينها تصوير العالم بشكل حر ومستقل بعيدًا عن قيود الإنتاج وهيمنة الاستديوهات الكبرى، ويعد ذلك مناسبًا لدول العالم الثالث أكثر، وهي التي عانت من الفقر والاستعمار لفترات طويلة، كدول أفريقيا وأسيا ودول أمريكا اللاتينية، ولذلك عرفت سينماهم ب "السينما الثالثة" .
سينما نوفو ومدخل إلى السينما الثالثة
أَطلق مصطلح السينما الثالثة لأول مرة صانعا الأفلام الأرجينتيان فرناندو سولاناس وأوكتافيو جينتو، واللذان قاما بإنتاج وإخراج أهم الأفلام الوثائقية في الستينيات، ويعد المنظرون أن مفهوم السينما الثالثة والذي تجلى بعد "الثورة الكوبية" تحديدًا، ليس مقتصرًا على منطقة أو حيز جغرافي بعينه، بل الأمر متعلق ب "الأيدولوجيا" التي يتبناها صانع الفيلم، بشرط، أن تكون تلك الأيدولوجيا مناهضة للاستعمار، كاشفة للاضطهاد الطبقي والعرقي، شديدة الخصوصية المحلية ومهتمة بالحقيقة في أي مكان، ولذلك فضّل المنظرون مصطلح "السينما الثالثة" على مصطلح "سينما العالم الثالث".
بالتالي رأى بيريرا ورفاقه في سينما نوفو، أن من في تلك الدول إن أرادوا التعبير عن أنفسهم بصدق عليهم ألا يلجأوا للميزانيات الضخمة التي لا تصدر إلا من الاستديوهات الكبرى والتي تشترط سياسات خاصة، وهي تجارية في الغالب، لذلك فإنها لن تدعم بالضرورة أي موقف حر وحقيقي.
يفسر ذلك تفضيل بيريرا ومن تبعوه سياسة التعبير الحر، ذلك النهج سار عليه بالمثل رواد الواقعية الإيطالية والفرنسيين الجدد، وهو الأسلوب الذي لقبه المنظرون ب "تيار الحداثة في السينما" فمنذ بداية الحداثة والتي يمكن تأريخها بداية من انتهاء الحرب العالمية الثانية، تم تهميش دور المؤلف السينمائي \ السيناريست – لصالح لقطات تسجيلية اهتم فنانو السينما بتوثيقها لرصد تبعيات الحرب وطبيعة المجتمعات- أو استبداله بالأدباء والفلاسفة لكتابة الأفلام، مثل استعانة المخرج الفرنسي آلان رينيه بمارجريت دوراس وآلان روب غرييه مثلا في أفلامه " هيروشيما حبيبتي – Hiroshima Mon -Amour " و "العام الماضي في مارينباد – Last year in Marienbad ".
إن ذلك الاتجاه الحر في التعبير نتيجة الابتعاد عن سياسات الاستديوهات الكبرى وقيود الإنتاج، وبالاستعانة بمقولة جودار أن "كل فيلم يدور بداخل استديو هو فيلم يميني" يمكن فهم سياق جملة جلوبير روشا الشهيرة، والتي عدت شعارًا للحركة "كاميرا في اليد، وفكرة في الرأس".
نرى ذلك الأسلوب الواقعي، والمستقل في التصوير ممتدًا لتجارب أخرى داخل الحركة مثل فيلم "Cat skin" لجواكيم بيدرو دو اندرادي، فنراه يرصد معاناة أربعة أطفال يحاولون كسب قوتهم اليومي عن طريق التجارة في جِلد القطط، ونرى جماليات الجوع والفقر في مدينة ريو دي جانيرو الصاخبة.
ولم تقتصر أفلام الحركة على رصد معاناة سكان الأحياء في المدن، فلقد تخلى المخرجون عن مركزية المدينة واتجهوا للريف، فتنوعت مواضيعهم في الريف ما بين رصد سيطرة الإقطاع، وهو ما نراه في فيلم "Barren lives" الذي يرصد فيه بيريرا رحلة الفلاح "فابيانو" الذي يعتدي على إقطاعي كان يعمل لديه من ثَم يهرب ليقاسي هو وأسرته في مزرعة لإقطاعي آخر، وكأنها رحلة لا تنتهي من العذابات في ظل سيطرة الإقطاع.
تتشابه تلك الحبكة مع تلك التي بدأ جلوبير روشا فيلم الحركة الأشهر-"Black god, white devil" - والذي يعده منظّر ك "كلود بيلي" الفيلم الذي رسخ لسينما نوفو عالميًا - ففيه نرى مانويل يقتل رئيسة الإقطاعي ويهرب هو وزوجته سعيًا للحرية، ولكنه يقع تحت سطوة رجال الدين نتيجة لجهله، ليلتقي بعدها بكل من كوريسكو وهو رجل عصابات متطرف و "أنطونيو دي مورتي" الكانجاسيرو \ قاطع الطريق. وغلبت تلك المواضيع على أفلام الحركة، وهي المواضيع التي ناقشت هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وتحالفها مع رجال الإقطاع والسياسة ليكون المواطن الريفي والفقير دومًا ضحية لتلك التحالفات، وهو ما نراه متمثلًا في أفلام أخرى مثل
The given word ، The priest and the girl ، The guns ، Barren lives
Entranced earth
لكل من أنسيلمو دوارتي وجواكيم بيدرو، روي جويرا، ونيلسون بيريرا دو سانتوس وجلوبير روشا.
اتجه رواد الحركة أيضًا لرصد فئات مهمشة مثل صيادي السمك، وهو ما نراه في فيلم جلوبير روشا “Barravento” ، وفيلم باولو ساراسيني " Arraial do cabo " وتبدو الغاية من تلك الأفلام التي مزجت بين الروائي والتسجيلي ليست مقتصرة على رصد تلك الفئات بل في نفس الوقت هي تشير للهوية وتؤكد على استمرارية التراث اللذان سعت الإمبريالية والحداثة لمحوهما، وفي تلك الأفلام نرى ملامح الأسلوب التسجيلي الذي اكتسبه رواد الحركة من سينما بيريرا.
امتدت مواضيع الحركة لأكثر من ذلك فاتجهت لرصد تبعيات الفقر مثل الدعارة والسرقة، الخيانات الزوجية والفضائح الأخلاقية، ولكن الملفت هو عدم اهتمام مخرجوها بما هو أخلاقي بقدر اهتمامهم بما تعبر عنه تلك الانحرافات، أولا كونها نتيجة لما سبق، من قمع سياسي واقتصادي، وثانيا كونها من تبعيات الحداثة الغربية، كما نرى في فيلم "The unscrupulous ones " لروي جويرا، وفيه نرى شابين يقومان باستدراج الفتيات لكي يقوما بتصويرهم عراه ومن ثم بيع تلك الصور مقابل مبالغ زهيدة من المال، ويذكرنا ذلك الفيلم تحديدًا في بنيته بثلاثية الانحطاط لأنطونيوني، ليس في موضوعه المثير فقط، بل على مستوى الشكل، الأسلوب الإخراجي الذي تميز به أنطونيوني، من استخدام المساحات والفراغ للتعبير عن خواء الإنسان المعاصر واستهلاكه. نرى ذلك أيضًا في أفلام مثل
Falecida, Porto das caixas, The given word, Antonia des mortes.
لمخرجين مثل ليون هيرسزمان، وروي جويرا.
وباولو سيزار ساراسيني، وهو مخرج أراه لم يأخذ حقه كثيرًا مثل نيلسون بيريرا مثلا، كونه رائدًا للحركة بفيلمه، أو مثل جلوبير روشا الذي اشتهر بإعلانه مانفيستو الحركة وذيع صيته عالميًا.
وتميز ساراسيني بطرحه لشخصيات ومواضيع إشكالية، فمثلما يرصد في فيلمه
Porto das caixas” “ انحطاط أخلاقي لطبقة البروليتاريا متمثل في خيانة امرأة فقيرة لزوجها وسأمها منه فهو بالمثل يرصد السأم البرجوازي في فيلمه " The dare " وهي تيمة تكررت مرارًا في أفلام الحركة، فنراها مثلًا في فيلم جويرا الذي سُبق ذكره وفيلم ليون هيرسزمان " Falecida". بجانب ذلك تأثر ساراسيني بموتيفات أصيلة في الأدب فنرى في أفلامه تلك ملامح من أدبيات كبرى ك ماكبث وأورفيوس على سبيل المثال.
تظهر أيضًا تيمات واضحة في أفلام الحركة مثل هيمنة كرة لقدم على خلفية الأحداث وهو ما يعبر عن أصالة رياضة كرة القدم ومدى ارتباط الشعب البرازيلي بها، وهو ما نراه متجلي بقوة في أفلام مثل
Falecida, Rio 40 Guars . كما تتكرر فكرة وجود شهيد، مخلص يحمل إثم جميع شخوص الحكايا – سواء بشكل واقعي أو مجازي- كما نرى في الفيلمين السابقين، وفي أفلام مثل
The given word, The guns, The priest and the girl, Black god white devil, Porto das caixis, Entranced earth, Rio, zona norte وغيرهم.
بعض الأفلام مالت أيضًا لنهايات مأساوية، يضيع فيها أبطال الحكاية بدون خلاص أو ملجأ، مثل نهاية فيلم روشا Black god white devil، الذي ينتهي فيه الزوجان بينما يجريان إلى ما لا نهاية، أو كفيلم بيريرا " “ Barren lives الذي نرى فيه الزوجين في الأخير بينما يمشيان وسط أرض جافة وقاحلة، في طريق طويل لا نهاية له.
سينما نوفو في ظل الديكتاتورية
إن تلك النهايات المأساوية والمتشائمة تعبر عن تصورات رواد الحركة تجاه ما هو قادم في ظل الحكومات المستبدة، فيبدو مظلمًا بلا ملامح، وهو ما يذكرنا بنهايات أفلام حركة الواقعية الإيطالية، فهي نهايات مأساوية عبر من خلالها رواد الواقعية الإيطالية بحدة، عن رفضهم للميلودراما لإرضاء الجمهور، فاهتموا أكثر برصد الواقع كما هو، وبالتعبير عن رؤاهم بصدق.
وبالطبع كان يرجع ذلك لقلق مهيمن على رواد الحركة، معبر عن تيههم بخصوص ما هو قادم، خاصة بعد تغير أكثر من حكومة، وخوفهم المبرر من توغل الهيمنة الأمريكية بعد عام 61، فلم يطمئن المخرجون بمجرد تولي حكومة جولات الإصلاحية الحكم، تخوفًا من السياسة الأمريكية التي وضعت دول أمريكيا اللاتينية نصب أعينها، خاصة بعد نجاح الثورة الكوبية، وهو ما حدث بالفعل في عام 64، بعد الإنقلاب الذي دعمته الولايات المتحدة على حكومة جولات، انتصارا للديكتاتورية العسكرية، ذلك ما يفسر الغضب الذي هيمن على أفلام الحركة بعد 64 تحديدًا، واتجاه المخرجون لرؤية السلطة تلتهم نفسها بنفسها، كما في أفلام مثل
Entranced earth، The brave warrior ، Antonia des mortes
وهي أفلام ترصد أزمات لسياسيين بجانب السلطة، ويتم التعبير من خلالها عن الوضع السياسي المعقد في ظل الحكومات الديكتاتورية، ويتجلى ذلك في فيلم
" Antonia des mortes " لروشا، وفيه نرى المناضل أنطونيو دي مورتي قاطع الطريق في فيلم " Black god white devil " بينما يقف أحيانًا إلى يمين السلطة، وينتهي به الأمر بالضياع في النهاية، ربما تعبر تلك النهاية عن رؤية روشا المتشائمة تجاه الفرسان، خاصة في عصر الديكتاتورية، الذين تلاشوا ولم يعد لهم وجود أو تأثير كافي، ضائعون في الطريق.
نتيجة لسيطرة الديكتاتورية العسكرية على الحكم اختلفت أفلام نهاية الستينيات وبداية السبعينيات عن ما قبلها، فلقد ابتعدت تلك الأفلام عن الواقعية، واتجهت أكثر لما هو غرائبي وسريالي ورمزي، كمحاولة للإسقاط على الوضع القائم، نرى ذلك متمثلًا في أفلام ك
Of gods and the undead, Macunaima, S. Bernando ، How tasty was my little Frenchman
لروي جويرا، وجواكيم اندرادو، وليون هيرسزمان، ونليسون بيريرا وجميعها كانت بمثابة حيل \ مراوغات لابد منها.
لدرجة أن فيلم بيريرا "How tasty was my little Frenchman " الصادر عام 1971 تدور قصته في القرن السادس عشر، وهي قصة تحكي محاولة دول أوروبا استعمار البرازيل، وهو ما يتماس مع ما حاولت الولايات المتحدة فعله في دول أمريكا اللاتينية في منتصف القرن العشرين. نرى أيضّا ظهور لمخرجين أكثر عنفًا وجموحًا عن مخرجين نوفو، وهم جيل المخرجين الذي ظهر في نهاية الستينيات مثل " نيفيل دو ألميدا – Neville de Almeida" والذي اعتبر الجنس والعنف موتيفة أساسية في سينماه، كتعبير عن غضب كامن في النفس نتيجة القمع السياسي في تلك الفترة وفي نفس الوقت يتماس ذلك مع الحركات التحررية التي بدأت في الستينيات، فنرى مثلا في فيلمه "Killed the family and went to movies " عصارة هذا الفكر، ليبدأ الفيلم بشاب من عائلة متوسطة يقتل أسرته ويبدأ بممارسة حياته بشكل عادي، بينما تبدو حياته بلا أي جدوى.
جماليات الجوع – العنف كمفهوم جمالي
كل ما سبق هو تمهيد لمصطلح "جماليات الجوع" وهو المفهوم الذي صكه الفتى الذهبي لسينما نوفو "جلوبير روشا" في بيانه عن الحركة عام 1965 في إيطاليا، بوصفها حركة مضادة للسينما التجارية في البرازيل، الممسوخة من السينما الهوليوودية، والتي لا تعد أكثر من محاكاة رديئة لسينما هوليوود التجارية، ومحاكاة رديئة لواقع البرازيلي نفسه، عوضًا عن ذلك رأى روشا ورفاقه مسؤولية حقيقية في رصد الجوع والفقر والاستبداد وبدون عاطفة أو رومانسية رخيصة، ليصل المشاهد للغضب، لا الحزن، لكي يثور، ويقول روشا في نَص بيانه :
" إن سينما نوفو ليست مجرد تجلي فني، ولكنها أيضًا بيان سياسي واجتماعي. ليس الجوع اللاتيني مجرد عرض يدعو للقلق، بل هو جوهر المجتمع، وهنا تكمن أصالة سينما نوفو، المأساوية مقابل السينما العالمية. في أصالتنا يكمن جوعنا، وفي أشد مظاهر بؤسنا يستعصي ذلك الجوع على الفهم نظرًا لكونه محسوسًا. لقد استطاعت سينما نوفو أن تكشف وتحلل تلك المواضيع المرتبطة بالجوع، نحن نرى فيها شخصيات تأكل التراب والنباتات وحتى الجذور، من يقتل من أجل الطعام، من يهرب من كل شيء خشية العار، شخصيات قذرة تسكن في أماكن متهالكة في ظل إنسانية تحتضر. إن الجائع لا يتحرك، بل يسرق أو يموت، لذا يكون العنف هو الفعل الوحيد الممكن، وهو يكون أكثر تطرفًا وحِدة كلما أصبحت الحياة مستحيلة. "
نتلمس ملامح الغضب في هذا الخطاب في اختيار مواضيع أفلام الحركة، في التكنيك والشكل والشخصيات وكل شيء، سواء تقني أو جمالي في أفلام الحركة، ويعد المشهد الأخير من فيلم “ The guns” لروي جويرا معبرًا بشدة عن تلك الثنائية; ثنائية الغضب والجوع، فنرى الفيلم ينتهي بوحشية كبيرة، متمثلة في التهام الفلاحين بشراهة للثور المقدس الذي كان ملكًا للسلطات، ومن خلاله بيشير جويرا إلى أن التضحية الفردية- كتضحية سائق الشاحنة- ليست كافية، وإنما يلزم للتغيير غضب جمعي، ولكنه للأسف في الفيلم يصبح غضب غير مكتمل، لا يؤدي لثورة أو تغيير حقيقي لأن الجوع يكون هو الغالب، في تلك الحالة "المقدس"، وهو "الثور" لا حضور لقدسيته تلك.
ويشير جيل دولوز في كتابه "الصورة – الحركة" إلى أن المشكلة الجوهرية في سينما نوفو – وسينما العالم الثالث بوجه عام- لا تكمن في اختيارهم المواضيع أو الأسلوب وطريقة التعبير، وإنما في كون تلك الشعوب لم تظهر بشكل حقيقي في السينما من قبل، بالتالي لم تعرف نفسها أو هويتها، وهو العائق الأول الذي يواجه صناع تلك الأفلام; إيجاد \ خلق شيء ليس له أي ملامح أو صور ذهنية مسبقة، وبتعبير دولوز "الشعب نفسه كان غائبًا".
ولإيجاد الشعب في نظر دولوز كان لابد من خلق- طريقة \ كيفية خاصة، وهو بالظبط ما فعله روشا ورفاقه، باختيارهم العنف كأسلوب تعبيري، لأنه الشيء الوحيد الذي يجمع بين غريزتي الغضب والجوع، هنا كان العنف وسيلة شاعرية لخلق ما لم يكن موجودًا من قبل، ويعبر عن تلك الثقافة وهذا الشعب بخصوصية شديدة، وهو ما نراه متجليًا في الأفلام التي صُورت في منطقة السيرتاو "Black god white Devil ، Barren Lives ، The Guns" لروشا ونيلسون بيريرا وروي جويرا.
إشكالية السينما الثالثة والجمالية الأوروبية
في مقالهِ "جودار وروشا في مفترق الطرق" يكتب الناقد السينمائي والمنظر جيمس روي ماكبين عن الفارق الكبير بين أسلوب الفرنسي جان لوك جودار وأسلوب جلوبير روشا رغم انطلاقهما من نفس الأيدولوجيا فيقول:
"رغم التزام روشا وجودار بالنضال من أجل التحرر الثوري إلا أن كل منهما لديه وبكل وضوح آراء مختلفة جدًا فيما يتعلق بكيفية تطوير الثورة ومساهمة السينما في هذه العملية. فروشا يتبنى "العفوية" ويقلل لحد كبير من أهمية الهموم النظرية، التي يعتبرها مجرد "أفعال مساعدة" لحث الطاقة العفوية عند كتل الجماهير. وقد عبر عن اعتقاده هذا قائلًا << الثوريون الحقيقيون في أمريكا الجنوبية هم أفراد، يعانون وجودهم الشخصي، وليسوا منهمكين في مشكلات نظرية.. إن التحريض على العنف، والاحتكاك بالواقع المرير الذي قد ينتج تغيرًا شديدًا في أمريكا الجنوبية، هذه الانتفاضة يمكن فقط أن تأتي على أيدي أناس فرادى قاسوا هم أنفسهم، وتأكدوا من وجوب الحاجة إلى التغيير، لا بدافع مبررات نظرية، بل بسبب الألم المبرح الشخصي >>.
كما يؤكد روشا اعتقاده بأن القوة الفعلية لكتل الجماهير في أمريكا الجنوبية تكمن في الصوفية وفي سلوك عاطفي وديونيسي، وهو ما يراه ناشئًا عن خليط من الكاثوليكية والأديان الإفريقية. ويحاول روشا إثبات أن الطاقة التي تغري إلى الصوفية هي التي سوف تؤدي في النهاية إلى مقاومة الناس للاضطهاد، وهذه الطاقة العاطفية هي ما يسعى إلى العزف على نغمتها في أفلامه. أما جودار فإنه على الجانب الآخر، يرفض التناول العاطفي بوصفه معالجة يتلاعب بها العدو، كما يسعى إلى مقاومة الصوفية بأي شكل، سواء جاءت من اليمين أو اليسار. ويتبنى جودار مبدأ راسخ، وهو أن الوعي الثوري ينشأ من خلال التنظيم المطور بصلابة والمبني على أسس نظرية سليمة، وهو ما سعى جودار إلى تبنيه دومًا في سينماه."
من خلال ما كتبه ماكبين عن روشا وجودار يتضح الفارق بين ما فعله روشا ورفاقه في سينما نوفو وغيرهم من المنتمين إلى السينما الثالثة، وبين ما فعله مخرجو أوروبا حتى أكثرهم تطرفًا في النضال كجودار، فيبدو جودار بجوار روشا أشبه بطفل مدلل مهتم بما هو جمالي ونظري وتقني، وهذا ما يفضي به إلى كونه مخرج نخبوي، على النقيض من روشا، المهتم في المقام الأول بما هو عاطفي وانفعالي، عن طريق التواصل الحسي المباشر مع الجمهور، حتى وإن كان في نظر جودار – بتعبيره - مستخدمًا ل
"أدوات السينما البرجوازية" التي تعمل على شحذ مشاعر المتفرج وإيهامه بالحقائق، عن طريق تقديم ما يشبه الواقع، والذي هو في جوهره بعيد كل البعد عن الواقع نفسه.
كل ذلك هو ما يفسر التأثير الطاغي لحركة "سينما نوفو" منذ ظهورها، انطلاقًا من كونها شرارة الانطلاق للسينما الثالثة التي جاءت هادمة بعنف للتقاليد المتعارف عليها في السينما التجارية في جميع أنحاء العالم وكشفت زيفها، فأظهرت بوضوح أن ليس كل وطني وعاطفي هو بالضرورة حقيقي، وأن دول الاستعمار لم ينته تأثيرها بمجرد خروجها الظاهري، وإنما احتالت في كيفية وجودها ليس أكثر، نتيجة لكل ذلك لم يكن أمام فنانو السينما الثالثة أية خيار، سوى التعبير عن مواقفهم بوضوح، وبلا مواربة.
- نشرت المقالة بموقع الجزيرة الوثائقية، بتاريخ 23 مايو لعام 2025
تعليقات
إرسال تعليق