لقد بدأت السينما المصرية ترسيخ مكانتها عالميًا في النصف الأول من القرن العشرين، وفي منتصف العشرينات، أي ليس بكثير – بعد حركات سينمائية كبرى – مثل التعبيرية في ألمانيا – ونقلة المونتاج للسوفييت. بالتالي عدت السينما المصرية "صناعة"، لا تقل عن صناعة السينما في كبرى دول العالم، وقد ترسخت كصناعة عالمية لها هوية وملامح بداية من الثلاثينيات والأربعينيات، فيما عرف ب "سينما الكبارية".
سينما الكبارية والالتزام بالنسق العالمي
يمكن التأريخ لسينما الكبارية / الكازينو مع بداية ثلاثينات القرن الماضي، عندما عرض فيلم "الوردة البيضاء" عام 1933، وهو فيلم من بطولة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، ومن إخراج محمد كريم، محمد كريم الذي عد رائدًا للسينما المصرية لوقت طويل، ورغم الجدل الدائر حول الريادة، أكانت لكريم، أو لمحمد بيومي (برسوم يبحث عن وظيفة) عام 1923، إلا أن كريم ينسب له النقلة النوعية للسينما المصرية في الثلاثينيات، عندما صدر فيلم الوردة البيضاء، وقد كان البطولة المطلقة الأولى لعبد الوهاب، ومن قبله فيلم أولاد الذوات عام 1932، الذي عد أول فيلم مصري ناطق، ومن قبلهم زينب عام 1930، وهو أول فيلم مصري يدور في الريف ومقتبس عن رواية، وهي رواية بنفس الاسم للكاتب المصري "محمد حسين هيكل".
ببساطة فإن سينما الكبارية التزمت بعدة سمات لم تحد عنها، مهما تنوعت المواضيع أو الأفكار، فكان لابد من مكونات أساسية لا غنى عنها ;مثل الشاب الغني، الراقصة، أغاني استعراضية، قصة حب بائسة ومستحيلة، ونهاية ميلودرامية، بالتالي فرضت تلك النوعية معالجات لمشاكل ومواضيع بعيدة عن غالبية الشعب المصري (مجتمع النصف في المائة). تبع الوردة البيضاء مجموعة كبيرة من الأفلام الغنائية على نفس النسق – ليس لكريم وحده – وأنما لكل مخرجي السينما المصرية في ذلك الوقت – مثل أحمد بدرخان – وماريو فولبي وغيرهم، ولذلك عدت سينما الكبارية "نقلة نوعية" رغم كل ما بها من مساوئ، وبالنظر للوهلة الأولى لما سمي بسينما الكبارية وهو "وصم" بالطبع، نجد أنها سينما (مؤدلجة)، لأن همها الأول كان إبعاد الشعب المصري عن رؤية همومه ومشاكله، في مقابل عرض مواضيع وأفكار سطحية، أو بشكل أدق ليست مشاكل جوهرية بالنسبة للغالبية. لكن بالنظر إلى السياق العالمي للسينما، ففي الثلاثينيات في إيطاليا مثلا نجد "التليفونات البيضاء" وفي ألمانيا نجد "الدعاية النازية" وفي أمريكا اللاتينية – البرازيل تحديدا- نجد "التشانشادا"، وكلها سينما غلبت عليها الأيدولوجيا، أما لخدمة الاستعمار أو بسبب سلطة ديكتاتورية فرضت نفسها بقوة، بالتالي فإن السينما المصرية في ذلك الوقت لم تبتعد كثيرا عن السياق العالمي المفروض على السينما، وهو ما يبدو كفيلًا، للنظر لسينما الكبارية بعين محايدة.
خطاب ما قبل الثورة: سينما في مديح الفقر
بالرجوع لفيلمين وهما "العزيمة" 1939 للمخرج كمال سليم، وفيلم "لو كنت غني" 1942 للمخرج هنري بركات، نجد أن كثيرًا من الدراسات النقدية لتلك الفترة يتعاملن مع كل منهما بطريقة مغايرة، فيعامل فيلم العزيمة على اعتباره "رائدًا للواقعية" في السينما المصرية، في حين يُرى فيلم "لو كنت غني" كامتداد لإيدولوجيا تمتدح الفقر.
عد العزيمة رائدًا للواقعية المصرية لكونه قد عرض الحارة المصرية لأول مرة على الشاشة، بالإضافة لرصده لمشكلة شاب فقير وهو محمد (حسين صدقي). في حين عد خطاب "لو كنت غني" كخطاب أيدولوجي يتغنى بالفقر فقط لأنه في ظاهره يؤكد بشكل مباشر على "نعمة الفقر والرضا" واعتبار الاغتناء "نقمة" وهو ما نراه في المشهد قبل الأخير، حينما يخطب الريس محروس "بشارة واكيم" في عمال المطبعة وينبههم لأهمية الرضا بالقرش، وأن في الاغتناء لعنة تبعدهم عن إنسانيتهم. وبالعودة مرة أخرى لفيلم العزيمة نجد أن خطابه لم يختلف عن فيلم بركات، فإن كان فيلم بركات خطابه واضحًا، فإن فيلم العزيمة يتبنى نفس الخطاب ولكن بطريقة مغايرة، فالحل لمشكلة الشاب محمد في فيلم العزيمة يأتي من "الخارج" ممثلًا في الشاب عدلي (أنور وجدي) و نزيه باشا (زكي رستم)، والحل الذي يأتي من الخارج هو الأصل في "الميلودراما"، ولأن الميلودراما تفرض الانسياق للقدرة الإلهية والأقدار فإن الإنسان فيها منزوعة إرادته، بالتالي يكون الحل من الخارج بمثابة دعوة للتكاسل، للتأكيد من جديد على استحالة التغيير بالإرادة الحرة والفردية وهو ما يودي إلى استمرار دائرة المعاناة، المتمثلة هنا في "الفقر". لذلك نلحظ أن السياق الميلودرامي الذي يتجلى في نهاية الفيلم موجود على امتداده، فهو لا يعرض مشكلة جوهرية حقيقية، في حين عرض الحارة وأهلها بشكل نمطي، خالي من "الواقعية".
نرى ذلك الخطاب ممتدًا أيضًا إلى فترة مقاربة للثورة، فنراه ظاهرًا في فيلم "المليونير" عام 1950، بطولة اسماعيل يس، ومن إخراج حلمي رفلة، ففي النهاية يأتي الحل لمشكلة "جميز" الشاب الفقير من خلال المليونير "عاصم" ليتزوج جميز وينعم بنهاية سعيدة، في حين يدرك عاصم أن السعادة ليست في المال، بل في إدراك نعم الحياة البسيطة. ويتضح سذاجة هذا الخطاب في مناقضته لنفسه، فكيف نقول أن السعادة ليست في المال في حين أن سعادة جميز المتمثلة في زواجه من الفتاة "سُكرة" متوقفة على قرار من عاصم بك الذي يملك المال!.
سينما ما بعد الثورة وتعدد الخطابات
عدت ثورة يوليو 52 نقلة نوعية كبيرة في تاريخ مصر الحديث، فلقد تبعها تغيرًا شاملًا في جمع مناح الحياة اليومية للمواطن المصري، من سياسة واقتصاد وصحة وتعليم، لينعكس ذلك في الأخير – ويتمثل – بشكل طبيعي – في ما هو فني، متمردًا على القوالب المحددة جدًا التي كانت موجودة من قبل.
يمكن تقسيم خطابات سينما ما بعد الثورة إلى ثلاثة خطابات، وهو ما فعله المخرج والمنظر "محمد كامل القليوبي" في كتاباته عن تلك المرحلة المفصلية من تاريخ السينما المصرية.
1- خطاب دعائي مباشر
وهو ما نجده متمثلًا في الأفلام التي مجدت في الضباط الأحرار بشكل مباشر وأنسبت لهم الفضل كاملًا في نجاح الثورة، بغض النظر عن المجهود الشعبي أو السياسات الداخلية المضطربة للبلاد في تلك الفترة على الصعيد العالمي، وهو ما نجده متمثلًا في ثلاثة أفلام
أولهم هو "الله معنا" الصادر عام 1955 بطولة فاتن حمامة وعماد حمدي، من إخراج أحمد بدرخان عن قصة إحسان عبد القدوس.
"رد قلبي" الصادر عام 1957، من بطولة شكري سرحان وإخراج عز الدين ذو الفقار عن قصة يوسف السباعي. "الأيدي الناعمة" الصادر عام 1963 بطولة أحمد مظهر وإخراج محمود ذو الفقار عن قصة توفيق الحكيم.
ويوجد سمات مشتركة جمعت الثلاثة أفلام، مثل الاقتباس من الأدب، الصناع أنفسهم إما كانوا ضباطًا في الجيش أو مقربين لهم، الموضوع المشترك – الحالم – الذي نرى فيه الطبقة الفقيرة تستطيع التحقق المادي والمجتمعي وهو ما يعود بنا إلى الميلودراما من جديد.
2 – خطاب دعائي غير مباشر
وهو ما نراه متمثلًا في سلسلة أفلام اسماعيل يس، اسماعيل يس في الأسطول، اسماعيل يس في الطيران، اسماعيل يس في البوليس الحربي، وغيرهم. المشترك فيهم هو اسماعيل يس بطلًا فيما فطين عبد الوهاب مخرجًا بجانب ركيزة أساسية، وهي "استعراض" المقومات الحربية للجيش المصري، انضباطه وصرامته، رغم كون تلك الأفلام تدور في إطار كوميدي.
3- خطاب واقعي
وقد تمثل في سينما غير مسيسة، لا تسعى لخدمة أيدولوجيا ما، إنما لغرض حقيقي وهو التعبير عن هموم حقيقية لدى الشعب المصري، مشاكل قبل، وما بعد الثورة. أدى ذلك إلى ظهور جيل بروح جديدة مختلفة كليًا عن من سبقوهم مثل يوسف شاهين وكمال الشيخ وتوفيق صالح وحسين كمال، حسن الإمام وحسام الدين مصطفى، فيما غيّر الذين سبقوهم من سينماهم أو بشكل أدق استطاعوا التعبير عن أنفسهم بحرية أكبر وبطريقة مختلفة
مثل صلاح أبو سيف، الذي عد رائدًا للواقعية تحديدًا منذ بداية فيلم الأسطى حسن عام الصادر عام 1952 ومرورًا بشباب امرأة والوحش والفتوة إلى فيلم "بداية نهاية" مع بداية الستينيات. ومثل هنرى بركات، فمثلما صنع "لو كنت غني" وغيره من الأفلام التي تبنت أيدولوجيا التغني بالفقر، فهو بالمثل قد أخرج فيلم "الحرام" عام 1965، من بطولة فاتن حمامة عن قصة يوسف إدريس.
الواقعية المصرية: نبذ للميلودراما ورصد حقيقي للمعاناة
عد فيلم الحرام من أكثر أفلام السينما المصرية "واقعية" على مدار تاريخها، فتكتب الناقدة عزة إبراهيم عنه في مجلة الفيلم في عددها الثاني:
" إن هنري بركات يصور لنا في فيلم الحرام أدق تفاصيل بؤس وجوع البطلة عزيزة، وقد تمكن من ذلك متفاديًا الخطابة والنبرة الزاعقة، فيوجه المخرج ومن قبله كاتب القصة يوسف إدريس أصابع الاتهام بقوة إلى الجوع والبؤس اللذان حولا البطلة من ضحية، إلى قاتلة طفلها".
وامتدادًا لما كتبته الناقدة عزة إبراهيم، فإن الرصد الحقيقي في فيلم الحرام، بتلك التفاصيل الدقيقة للمعاناة هو ما يبتعد بنا شيئًا فشيئًا عن الميلودراما، فالميلودراما حتى وإن كانت تعرض صورة ظاهرة للفقر والمعاناة، يظل ما يكشفها هو إلى أي مدى استطاعت أن تحلل وتتعمق في أساس المعاناة، وهنا تقف الميلودراما عند حدود ما هو واقعي، فتضطر للحلول الخارجية، لذلك يظهر بوضوح ما صكه رواد الواقعية في تلك الفترة، إن لم يأت الحل من الفرد والجماعة، فلا حل ببساطة.
نرى ذلك متجليًا أيضًا في فيلم "بداية ونهاية" الصادر عام 1960 للمخرج صلاح أبو سيف، عن قصة نجيب محفوظ، بطولة فريد شوقي وعمر الشريف وسناء جميل. وفي الفيلم مع تردي حال الأسرة الفقيرة واستمرار معاناتها نصل إلى نهاية سوداوية تمامًا، لا نجد فيها إلا الضياع والموت، وهو ما يعد "منطقيًا" لظروف كتلك التي رأيناها في الفيلم، بالتالي لا نجد حلولًا سحرية أو منقذ فوري يخلص الأسرة من معاناتها.
لذلك كانت أفلام تلك الفترة بمثابة بداية جديدة - حقيقية للسينما المصرية، التي وجدت لنفسها صوتًا مميزًا، معبرًا عن هويتها ومعاناتها شديدة الخصوصية.
- نشرت المقالة بمجلة عالم الكتاب، الصادرة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، بتاريخ 31 يوليو لعام 2025
تعليقات
إرسال تعليق