القائمة الرئيسية

الصفحات

التعبيرية الألمانية: حركة فنية غيرت مجرى السينما




في شهر يناير من العام 1919 في ألمانيا، تم اغتيال كل من “كارل ليبكنخت وروزا لوكسومبورج” وهما من ثوار اليسار الألماني المناهض للاشتراكية، حيث كانا من أبرز أعضاء عُصبة “سبارتاكوس” التي عادت الحروب الإمبريالية ودعت إلى نظام اشتراكي منضبط في ذلك الحين، فتم اعتقالهما من قبل الحكومة الألمانية بالتعاون مع الفيلق الحر، وتعذيبهما حتى الموت.

كانت تلك الواقعة بمثابة صدمة مفجعة للشارع الألماني، حيث ساد الجوَّ العام نوعٌ من الحزن المرير نتيجة الشعور بالقمع واليأس، خاصة بعد انهزام الألمان في الحرب العالمية الأولى وقبولهم لمعاهدة فرساي، التي أشعرتهم بنوع من المذلة نتيجة القيود الاقتصادية والسياسية التي نصت عليها المعاهدة، وعليه انتشرت الجريمة في تلك الفترة في الشارع الألماني وأدى ذلك إلى نوع من الإحباط والتشوّه، تشوه في السلوك، وتخوف من الآخر، فكانت النتيجة مجتمعًا ممسوخًا، ممزقًا.

أدت كل تلك المعطيات في النهاية لنشوء حركة التعبيرية في السينما، والتي كان جوهرها نبذ أي رؤية تفاؤلية للحاضر، وكأنها نوع من التمجيد، واحتفاء باليأس، ورثاء للمواطن الذي فقد إنسانيته في ظل حكومة ڤايمار، لذا سميت تلك الحقبة من صناعة السينما بجانب مسمى التعبيرية، بحقبة ڤايمار، نسبة إلى مدينة ڤايمار الألمانية، التي اجتمع فيها ممثلو الشعب لصياغة الدستور بعد الهزيمة وقبول معاهدة فرساي. وتعد التعبيرية الألمانية أول حركة سينمائية تهتم بالذات كموضوع، لذا فهي تعد أولى الحركات الطليعية في السينما حيث اتسمت بذاتيتها المفرطة، لأنها كانت انعكاسًا للمجتمع الألماني حينها؛ صراعاته، وأفكاره ومشاعره.

واستلهمت التعبيرية السينمائية اسمها من حركة التعبيرية في الفن التشكيلي التي ظهرت في ألمانيا مع بدايات القرن العشرين، فكان أبرز روادها الألمان، لودفينج كيرشنر: مؤسس جماعة الجسر، وفاسيلي كاندينسكي: مؤسس جماعة الفارس الأزرق، وإيميل نولده، الذي تميزت لوحاته بالألوان الصارخة واستخدام الإحالات الدينية والأسطورية، وكان من رواد تلك الحركة وأشهرهم بالطبع، هو النرويجي إدفارد مونك، والذي عرف بلوحة “الصرخة”.

ومن خلال الصرخة لمونك تتبين سمات تلك الحركة الفنية، الاستخدام الأقل للضوء، وتداخل الألوان وحدّتها، والأهم هو التعبير عن دواخل الإنسان والتأكيد على الحالة النفسية التي هي قاتمة في الغالب، وهذا ما يفسر كثرة الوجوه المشوهة والأشكال المُحرفة في لوحات التعبيريين، وذلك للاتساق مع تلك العواطف والأفكار الداخلية القلقة. ولذا كانت التعبيرية بمثابة ثورة في الفن التشكيلي، على كل من الكلاسيكي والواقعي والانطباعي، لأنها ركزت أكثر على ذاتية الفنان وداخله بغض النظر عن ما هو واقعي وطبيعي، ولذا وجد رواد التعبيرية في السينما أنفسهم امتدادًا لتلك الحركة المتفقة ضمنيًا مع حالتهم في الحاضر وما يشعرون به، وهو ما يفسر طبيعية الكثير من الأفلام في ذلك الحين، حيث يتمثل ذلك في الموضوعات، وطريقة رسم الشخصيات، والديكورات الغريبة، والتباين بين الضوء والظلام، والهلاوس، والاتجاه لكل ما هو سوداوي وقاتم في الحياة.

ونرى أيضًا تركيزًا كبيرًا على رصد الأماكن الضيقة؛ في الشوارع، والأزقة والبيوت، فيجد الأبطال أنفسهم دوما محاصرين، وبالطبع فإن هذا العالم يعكس بدوره العالم الداخلي لأشخاص مضطربين، فهو عالم معقد يزداد ضيقًا وخنقًا لأبطاله المسوخ، لذلك نراه غريبًا في تركيبه على غير المعتاد، وهنا كان للفن التكعيبي دور كبير في التأثير على رواد التعبيرية أيضًا.

وفي مقدمته عن الحركة التعبيرية في كتاب “التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح” يقول عبد الغفار مكاوي:

“رخاء اقتصادي، تقدم مستمر في العلم والصناعة زحف التيار الوضعي والمادي، تضخم النزعات القومية والوطنية، غرور الاستعمار ونهبه للثروات والشعوب، تلك هي بعض الظواهر التي اتسمت بها بداية القرن العشرين. غير أن الطليعة الفنية والأدبية تشككت على الفور في هذه القيم، وارتابت في معنى التقدم والتطور المزعوم، وأعلنت احتجاجها على المدنية الزائفة، وصممت أن تكشف القناع عن الطمأنينة الكاذبة التي شعر بها البرجوازي الأوروبي، لا بل انغمس فيها إلى أذنيه، وتجلت واضحة على كرشه الضخم وملبسه الفخم وكلماته الطنانة الجوفاء وشهوته إلى المال والمنفعة والغرور الذي لا يبرره عجز الإنسان وضعفه في هذا الكون، واشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى، وجاءت مآسيها وتجاربها المرة المظلمة تأكيدًا لكل ما تنبأ به الضمير الأوروبي وكل ما احتج عليه الفنانون والمثقفون. ومن الطبيعي أن يكون السخط ملازما للتبشير بشيء جديد، وأن ترتبط الثورة على المدنية والآلية ورجال المال والأعمال وجلادي الشعوب بتأكيد حاد للنزعة الإنسانية المفتقدة. وقد جاء التأكيد الحار من جانب التعبيرية”.

(ومع صدور فيلم (عيادة الدكتور كاليجاري

(The cabinet of Dr. Caligari) عام 1920، للمخرج روبرت ڤيني -الذي يعد اقتباسًا لقصة دكتور جيكل ومستر هايد، وحقق الفيلم نجاحًا كبيرًا، ليس محليًا فقط، بل في جميع أنحاء العالم، وكان الفيلم جامعًا لكل سمات التعبيرية الألمانية والتي تمثلت فيما بعد في كل أفلام التعبيريين؛ المكياج المبالغ فيه، والديكورات الغريبة والأشكال المثلثية الخانقة، والإضاءة الشديدة عالية التباين، وأجواء قاتمة وغرائبية، بالإضافة إلى قصة متداخلة – قصة داخل قصة، والانتصار للرؤية التشاؤمية.

إن قصة فيلم كاليجاري هي من أوائل قصص السينما التي تعرض التباسًا “Plot twist” في نهاية الفيلم، وهو ما يجعل من نهايته مفتوحة، لينتهي الأمر بالمشاهدين بالوقوع في حيرة، وفي تلك النهاية يذوب الفارق بين الخير والشر، والعقل والجنون، ولذلك فكل من الالتباس والشك هما نقطتا تفرد الفيلم من حيث موضوعه، فالحكم النهائي على أي شخصية من شخصيات الفيلم لا يمكن بسهولة، حتى النهاية لا تحسم تلك المعضلة، بل تزيد أمر الجزم والحكم النهائي صعوبة.

وعلى ذكر الظروف السياسية في تلك الحقبة التي كانت عاملًا رئيسًا لخروج الفيلم، فبعد نجاحه الجماهيري أكد المؤلفان (هانز وكارل) بأن السيناريو الذي كتباه كان في الأصل إدانة واضحة للسلطة المتمثلة في “كاليجاري”، وتبعًا لذلك فإنهما ينزعانها منه في الأخير، ولكن كان للمخرج (روبرت ڤيني) رأي آخر، فأضاف خيطا للقصة يجعل السلطة تعود لكاليجاري في الأخير، ففسرا ذلك على أنه بمثابة مناهضة للاستبداد، وانصياع لرغبة شركة الإنتاج والذوق الجماهيري، ولكن من ناحية درامية كانت تلك الإضافة من قبل ڤيني هي التي جعلت الفيلم أكثر التباسًا وغموضًا وأعطت الفيلم مساحة أكبر للتأويل.

ويصف الناقد بول روتا فيلم ڤيني بأنه عبارة عن “نقطة من النبيذ في محيط من الماء المالح” حتى أنه يعد فيلمًا مهمًّا كفيلم “مولد أمة” لجريفيث، الذي عُدَّ فيلمًا ثوريًا في بدايات القرن العشرين حينها -هو فيلم باهت مقارنة بالأطروحات التي وجدت بعيادة الدكتور كاليجاري-، كما يصنفه النقاد بأنه واحد من بين فيلمين كان لهما التأثير الأكبر في صناعة السينما حتى يومنا هذا، (الثاني هو فيلم المدرعة بوتكيمون لآيزنشتاين).

وعند حلول عام 1920 وبعد صدور فيلم “عيادة الدكتور كاليجاري”، وتأسيس المدرسة كحركة فنية سينمائية متفردة، انضم إليها العديد من المخرجين مثل إف دابليو مورناو، بول ليني، وفريتز لانج ولوبو بيك وعندها أُعلنت السينما التعبيريّة كحركة سينمائية ذات صيت وحضور بارز، وظهرت العديد من الأعمال التي تتبع نهج الحركة مثل:

(Faust,1926) (Nosferatu,1922)

(The last laugh,1924)

(Raskolnikow 1923 )

(Golem,1920)(Metropolis,1927)(Faust,1926)

ما يجمع كل تلك الأعمال هو وجود الأبطال في حالة تيه، واغتراب، وانفصام كامل، وذلك الاضطراب لا ينعكس على سلوكهم فحسب، بل يمتد ليشمل العالم من حولهم، ليبدو بكل ذلك التعقيد، بجانب أن ذلك العالم الضيق يعكس بدوره عالما متهالكا بلا هوية، محكوما من قبل سلطة غاشمة. ويرجع الفضل لذلك الشكل الاحترافي الطليعي بالنسبة للسينما للتشكيليين الذين عملوا كمصممي ديكور في المسرح قبل السينما وهم هانز بولزيج، وهانز دراير، وهرمان وارم، ووالتر روهرج وأوتو هنت. فيتضح من ذلك أن ديكورات التعبيرية الألمانية ظهرت في المسرح قبل السينما، بالإضافة إلى وجود كتّاب سيناريو متميزين مثل “كارل ماير” الذي كتب أفلاما عديدة لرواد التعبيرية.

وتبرز الألوان بدورها في تلك الأفلام أحيانًا لتصف بتطرفها مدى بشاعة ذلك العالم وتيه أبطاله، فيبدو اللون دومًا غير مستقر، من الأزرق القاتم، إلى الأصفر المعبر عن حالات الجنون وأحيانًا الأحمر الدموي المعبر عن الرعب والهلاك، كما تعبر الظلال بدورها عن مدى شعور هؤلاء الأبطال بالتمزق، بين رغباتهم المترسخة في اللاوعي والتي تنادي بالتحرر، وبين واقع مستمر في تكبيلهم وفرض قيوده عنوة، ويرجع ذلك لمديري التصوير البارعين أمثال ويلي هاميستر: مصور كاليجاري، وفريتز آرنو فاجنر: مصور نوسفيراتو لمورناو، وإم لفريتز لانج.

كما اشترك الرواد في رؤيتهم لإنسان تلك الحقبة مثل فناني الرسم مع لوحاتهم، على أنه مجرد إنسان ممزق، وذلك التمزق هو نتاج للقمع السياسي والمجتمعي، ولذلك فهو فاقد لآدميته ووعيه، ويتحرك ببطء، وكأنه منساق لمصير مجهول، يتجلى ذلك في أفلام مثل (نوسفيراتو-Nosferatu) لمورناو (Metropolis-ميتروبولس) لفريتز لانج و(غول-Golem) لبول فيجنر، حيث نرى شخصيات ممسوخة، ودمى وآلات، ومصاصي دماء ومجانين. ولم يكن ذلك مجرد تفضيل لقصص المسوخ والرعب القوطي من الأدب والتراث، فلم يجد الرواد انعكاسا لتلك الحالة المزرية للواقع الذي يعيشونه سوى في ذلك النوع، ولذلك فالانتهاء بتلك الحالة هو نتاج طبيعي لما عانى منه المجتمع الألماني حينها.

ويصف جيل دولوز روح وجوهر التعبيرية الألمانية في كتابه “الصورة والحركة” بقوله: “ما ذهب إليه المذهب التعبيري ليس الميكانيك الواضح لكمية الحركة في الأجسام الصلبة أو السائلة، وإنما تلك الحياة الغامضة المستنقعية التي تغوص فيها كافة الأشياء، سواء منها تلك التي تمزقها الظلال، أو التي يواريها الضباب. إنها الحياة اللاعضوية للأشياء، الحياة الرهيبة التي تجهل الحكمة، وتجهل حدود البنية العضوية، فالموارد الطبيعية والمنتجات الصناعية، وأعمدة الإضاءة والأشجار، والمضخة والشمس، لم يعد بينها أي اختلاف من وجهة النظر هذه. إن جدارًا تدب فيه الحياة لهو شيء مرعب، ولكن ها هي ذي الأدوات المنزلية والمنازل وأسقفها المنحنية تتعانق، تترقب، تتخطف. إنها ظلال المنازل التي تتعقب الراكض في الشارع”.

بفهم كل ذلك يتضح لماذا تتمثل حالات من البارانويا نراها في فيلم “The last laugh الضحكة الأخيرة” لمورناو مثلا، وفيلم “Nerves – أعصاب” لروبرت رينارت، والذي يسبق فيلم كاليجاري.

تلك البارانويا لا تعبر إلا عن تخوف من مستقبل مظلم، وهوس مهيمن على المجتمع الألماني المعاصر لتلك الحقبة، وبالنظر لطبيعة تلك الأفلام نجد إرهاصات لما سيصير الأمر عليه لاحقًا، ففي فيلم عيادة كاليجاري نرى تصورًا دقيقًا لمستقبل النازية، فالطبيب في الفيلم لا يختلف أبدًا عن نموذج أدولف هتلر، فهو مهووس بفكرة التحكم بالآخر، وهو في النهاية عبارة عن مخبول، منفصم، مولع بالسيطرة. ولم يكن الانفصام مقتصرًا على عيادة كاليجاري فقط بل وجد في أفلام لاحقة مثل (إم -M) لفريتز لانج، وتسرب أثره لأفلام مثل (راسكولنيكوف- Raskolnikow) لروبرت ڤيني المأخوذ عن رواية دوستويفسكي الجريمة والعقاب، حيث كان الفيلم من أوائل الأفلام التي تقتبس عن أدب دوستويفسكي، كما يعد اللجوء لأدب دوستويفسكي لجوءًا له دلالة، ضرورة حتمية في تلك الفترة المعقدة، المفصلية من التاريخ، فهو أدب قائم على رصد شخصيات في الغالب هي شخصيات فاقدة للأهلية، ليس بسبب ضعف عقلها أو مرضها، وإنما لظهورها في فترة مضطربة من التاريخ الإنساني، وإن كان دوستويفسكي يعبر عن الفرد الروسي وليد تلك الحقبة، فهو ما يحدث هنا بالمثل مع شخوص أفلام التعبيرية الألمانية، وهو ما نراه في اختيار (Faust- فاوست) بالمثل أيضًا، المأخوذ عن رواية جوته، الذي أخرجه مورناو، فيعد اختيارا ذا ضرورة حتمية، ردًا على لا معقولية تلك الحقبة بالنسبة للمجتمع الألماني، وفيلم “Nosferatu -نوسفيراتو” الذي يبشر بهيمنة وتفشي الطغيان، فتبدو كلها اختيارات لها دلالة واضحة، تعكس توجه المجتمع وفنانيه، وهي تفسر أيضًا اختيارهم لقصص الرعب تحديدًا، ورصدهم لحالات نفسية مثل البارانويا والانفصام.

المثير للانتباه في أفلام تلك الحقبة كما يشير نقاد التعبيرية، أنها صُنعت بطريقة ما لإلهاء العامة عن إحباطهم، ككيفية للهروب من تلك المآسي، ولكنها في النهاية وبطريقة ما، أصبحت بمثابة مرآة لذلك الواقع المقيت، وتنبؤ دقيق لمستقبل مظلم. ويعد مورناو أبرز شخصية في السينما الألمانية بعد فريتز لانج، فلا تُنسى أيقونته، سيمفونية الرعب “Nosferatu” وهو فيلمه الأبرز والبداية لشهرته، ويعتبر البداية لتيمة الرعب في السينما، وهو أحد الأعمال الأولى المقتبسة من رواية دراكولا للكاتب برام ستوكر الصادرة عام 1897.

واللافت في هذا الفيلم هو معالجته -رصده- للطبيعة، ويبدو أن مورناو كان لديه ارتباط خاص بالمناظر الطبيعية، فالتقط معظم مشاهد الحياة الواقعية لنوسفيراتو في وسط أوروبا من خلال التصوير الرائع لفريتز أرنو فاجنر الذي كان متخصصًا في التصوير السينمائي الواقعي منخفض التباين بالأبيض والأسود مع الخلفية الرمادية دومًا. لذا يعد فيلم “Nosferatu” بلا شك أحد أكثر الأفلام رعبًا وظلامًا على الإطلاق.

وفي عام 1924 أخرج مورناو وبالتعاون مع كارل ماير في كتابة السيناريو فيلم “The Last Laugh الضحكة الأخيرة” وأحدث هذا الفيلم ثورة في السينما من حيث تصميم المسرح والإضاءة والكاميرا وبشكل عام بأسلوبه الجديد كليًا عن التعبيرية. وكان من المفترض أن ينتهي الفيلم بنهاية مريرة، لكن شركة الإنتاج ضغطت على مورناو وأجبرته على عمل نهاية سعيدة للفيلم من أجل أن يكون أكثر نجاحًا وبيعًا، وجاء الفيلم مغايرًا لأعمال التعبيرية الأولى، حيث ركز على عدد قليل من الشخصيات وركز على حياة مواطن الطبقة الوسطى الألماني.

بعد إنتاج الفيلم، صنع مورناو فيلم Faust عام 1926، استنادًا إلى القصة الشهيرة التي يدور موضوعها حول رجل يبيع روحه للشيطان، حيث وصف النقاد الفيلم بأنه “من أهم الأعمال في مناقشة فن الظلال والأرواح”.

وبالرجوع إلى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، نرى تشكيل الرومانسية الألمانية من قبل الكتاب والشعراء مثل شيلر وجوته تحت تأثير فلسفة المثالية والفلاسفة مثل فيشته وشيلينج وهيجل قد تم لمواجهة التعصب العقلاني بعد عصر التنوير، ولذا تتجلى ذروة هذا الفكر في الأسطورة الألمانية الشعبية “فاوست” عندما يلجأ الإنسان مرة أخرى، وبسبب عجز العلم إلى الميتافيزيقيا. وقد استخدم كريستوفر مارلو هذه القصة مرة في العصر الكلاسيكي وأنهاها جوته في العصر الرومانسي، وأعاد إحياءها مورناو مع الحفاظ على سمات مسرحية جوته، التي تحكي عن عالم عجوز، يبرم اتفاقًا مع ميفيستو الشيطان لإبعاد الطاعون عن المدينة، ثم يغريه بالسعي إلى الخلود، وبعد أن أخضعه، يجره ميفيستو من مغامرة إلى أخرى حيث يوجد الشر فقط.

بعد عام من صدور الفيلم، أخرج مورناو فيلم “sunrise” عام 1927 المبني على رواية هيرمان سوديرمان (رحلة إلى تيلست) وحصل الفيلم على جائزة الأوسكار في أول عام للجائزة، وكان الفيلم إنتاج أمريكي.

مرورًا بتلك التجارب، ونتيجة تدرج طبيعي بدا فيلم “متروبوليس – Metropolis” لفريتز لانج وكأنه ينتمي لزمن آخر، وبالطبع فإن تلك الرغبة كانت في البدء نابعة من “UFA” الشركة المنتجة لأعمال التعبيرية الألمانية، رغبة في مجابهة سوق السينما في العالم، ولذلك يبدو فيلم متروبوليس على عكس أفلام التعبيرية، فيلم مكلف، شديد التقنية، وله تطلعات أكبر، أما الرغبة الثانية فكانت رغبة قومية نابعة من صميم الشعب الألماني نفسه، فبالنظر إلى الولايات المتحدة لم تكن ألمانيا تضاهيها من ناحية التكنولوجيا والاقتصاد، ولا حتى في مجال السينما قبل التعبيرية، ومن حيث التقنيات التي تمثلت في آلات التصوير والمعدات، بسبب كل ذلك يشار لفيلم متروبوليس بأنه فيلم ينتمي لنهاية حقبة ڤايمار، ليس سياسيًا فقط لأنه قبل ظهور النازية بسنين معدودة، ولكن لاختلافه شكلا ومضمونا عن الفيلم التعبيري في بداية حقبة ڤايمار. وكثيرا ما يقال أن السينما الألمانية ولدت كشكل فني مع تأسيس شركة UFA، التي كان لديها أكبر وأوسع استوديو فردي في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. كما يشار إلى أنها احتكرت السينما الألمانية في عشرينيات القرن الماضي، ولكن في نهاية هذه العشرينيات عملت المنظمة كموزع أفلام للشركات الصغيرة أكثر من كونها منتجا مستقلا.

لذا فإن أحد أسباب ظهور التعبيرية هو أن الأفلام القليلة التي أنتجتها UFA في تلك الفترة، كلها تقريبًا من كلاسيكيات السينما أو العصر الذهبي لألمانيا. وكانت UFA مسؤولة بشكل شبه مباشر عن ولادة السينما الألمانية الجديدة المرتبطة مباشرة بموجة ثورية من الحماسة الفكرية التي اجتاحت ألمانيا في بداية الحرب.


متروبوليس لا يختلف كثيرًا عن غيره من أفلام التعبيرية في تصورها المبدئي عن إنسان المستقبل الذي صُور كمسخ، فهنا يتحول بفعل السلطة أو المجتمع لروبوت مُميكن. إن إحلال الآلة محل المسخ في متروبوليس هو مفارقة توضح الفارق بين تصور لانج عن المستقبل وتصور رواد الفترة الأولى من حقبة ڤايمار (مورناو وڤيني) فتصور هؤلاء الرواد مبني على أدب القرن التاسع عشر، قصص الرعب القوطية والأساطير؛ بمعنى أنها رؤية مبنية أكثر على رصد التاريخ والماضي، ولكن لانج يرى ذلك المسخ بعين واعية بواقعها المعاش وما سيصل إليه ذلك الواقع بحلول عصر الاختراعات والتكنولوجيا، ولذلك كان من الطبيعي إحلال الآلة، الواعية تماما محل ذلك المسخ، فتصبح متروبوليس، هي النقيض لمدينة أفلاطون الفاضلة، يوتوبيا من نوع كابوسي محكوم من قبل الآلة.

متروبوليس هي رواية خيال علمي كتبت عام 1925 بواسطة (Thea von Harbou) وهي التي شاركت فريتز لانج كل مشاريعه الناجحة، ولم تكن سينما الخيال العلمي شائعة في ذلك الوقت، فقط بعض المحاولات هنا وهناك، ربما أشهرها هو فيلم جورج ميلييه (رحلة للقمر) عام 1902، ولذلك يعد فيلم متروبوليس طفرة في تلك الحقبة، ذا أثر ممتد حتى الآن، بالغ التأثير على أفلام مثل أوديسا الفضاء لستانلي كيوبريك، وبليد رانر لريدلي سكوت، والكثير من أفلام الخيال العلمي، فهو بمثابة أب لسينما الخيال العلمي، فيلم ثوري على المستوى البصري والموضوعي، وجدير بالذكر أن الفيلم حينما تم توزيعه في أمريكا فضّلت شركة بارامونت تقطيع الفيلم لتصبح مدته لا تتجاوز الساعتين، بحجة أن فيلما زائدا عن الساعتين لن يكون محل ترحيب من قبل الجمهور. وبجانب تفرد الفيلم بكونه فيلمًا رائدًا في سينما الخيال العلمي، فهو أيضًا في حبكته الداخلية يتناول قضية العمال المحكومين من قبل سلطة رأسمالية، تستعبدهم وتستنزف طاقاتهم، وذلك ما يؤدي إلى ثورتهم على الآلة في الأخير. بذلك دعم الفيلم الرؤية الاشتراكية القومية للألمان التي شاعت في العشرينيات، وهي النهاية التي لم تعجب موزعي الفيلم كثيرًا.

ينطبق المثل كذلك على فيلم فريتز لانج (M) الصادر عام 1931، فهو مختلف عن الأفلام التعبيرية الأولى من حقبة ڤايمر، إلا أنه يتلاقى معهم في موضوعه، وهو فيلم عن الجنون أيضًا؛ الانفصام للدقة، ولكنه بعيد كل البعد أن يكون معبرًا عن حالة عامة، فهو يبتعد عن حالة الشارع والمجتمع، ويعبر عن مأساة فردية، يتناول موضوع الانفصام بشكل موضوعي واقعي أكثر، حتى فكرته الرئيسة وهي عن قاتل متسلسل، ربما تبدو فكرة حداثية مقارنة بما سبق من أفلام، وبالطبع فإن كون الفيلم ناطقًا هو كفيل بجعله مختلفًا كل الاختلاف عما سبقه، ولكن في النهاية فالفيلم يعكس حرفية صانع عبقري مثل لانج .

ويمكن تقسيم حقبة ڤايمار السينمائية إلى فترتين أهمها بالطبع هي الأولى، وهي فترة أوائل العشرينيات تزامنًا مع ظهور فيلم كاليجاري، ومع تدرج السنين نرى تغيرًا ملحوظًا في الأسلوب، والموضوعات، وبالتالي نرى لاحقًا ظهور مخرجين مثل إرنست لوبيتش ومواضيعه التي تناولها، وتركيزه على السينما التاريخية، والذي بعد نبوغه ينتقل لهوليوود ليتجه لصناعة الأفلام. وأدق وصف لها هي أنها “أمريكية بالكامل”، ليحقق في أمريكا نجاحًا مبهرًا.

بناءً على ما سبق ونتيجة بروز وذيع صيت رواد التعبيرية في تلك الحقبة، أمثال فريتز لانج ومورناو ولوبيتش بدأت أمريكا في استقطاب تلك الأسماء لاستوديوهات هوليوود الكبرى، وهو ما حدث بالمثل مع مخرجين كبار في أوروبا في تلك الفترة، مثل الدنماركي كارل ثيودور دراير، والسويدي فيكتور سيستروم، وغيرهما.

وهنا يمكن الإشارة لسياسة “الاستقطاب الأمريكية” في الفنون، التي بدأت مبكرًا جدًا في فن وليد مثل السينما، فكان لأولئك المخرجين الفضل في ريادة أعمال هوليوود في تلك الحقبة، كما سيمتد تأثيرهم لما سيعرف أيضًا بـ”حقبة هوليوود الذهبية”، ولكن يمكن ملاحظة الفارق بسهولة بين أعمال المخرجين في بلدانهم الأصلية وبعد الانغماس في رقابة استوديوهات هوليوود وسياساتها، وبالطبع كانت أعمالهم المبكرة، أكثر أصالة، وتمردًا وحرية.

بالتالي يرجع الفضل في الأصل لبزوغ نوع مثل “الفيلم نوار” في هوليوود -وهو المصطلح الذي صكه النقاد الفرنسيون في منتصف الأربعينيات والخمسينيات لرواد التعبيرية-، فكانت أفلام التعبيرية في البدء هي من اهتمت بجوانب الإنسان الداخلية والنفسية، ورصدت أعمق مخاوفه وتناقضات سلوكه، لتغوص أكثر في نفسية المجرمين وتُشرّح تصرفاتهم المنحرفة، كما تناولت على مستوى الشكل، التباينات بين الضوء والظلال بشكل لافت، للتعبير عن تلك الحالة الداخلية، وكيف تنعكس على العالم المحيط بالأبطال.

وبالإضافة إلى “الفيلم نوار”، كان للتعبيرية الريادة في إدخال تيمة الرعب للسينما، كما كانوا سبّاقين في اللجوء للأدب وخلق علاقة وطيدة بينه وبين السينما، وكذلك بالمثل مع كل من القصص الشعبية، وعلم النفس.

كان كل ذلك ملهمًا لصناع السينما فيما بعد وحتى يومنا هذا، لذلك عُدَّت التعبيرية الألمانية أكثر الحركات السينمائية تمردًا، وثورة.


- نشرت المقالة بمجلة نزوى العمانية - العدد 123- بتاريخ 3 أغسطس لعام 2025



المصادر والمراجع


موسوعة تاريخ السينما المجلد الأول، السينما الصامتة: جيوفري نويل سميث، ترجمة مجاهد عبدالمنعم.

المدارس الجمالية في السينما العالمية لجي أنبال، ترجمة مي التلمساني.

السينما التعبيرية الألمانية لإيان روبرتس، ترجمة يزن الحاج.

التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح، عبدالغفار مكاوي.

التأثيرية والفن الحديث، جمال قطب.

الصورة – الحركة، جيل دولوز، ترجمة حسن عودة.

The Story of Film: An Odyssey (2011) Part 1, 2 directed by Mark Cousins

From Caligari to Hitler:

A Psychological History of the German Film, written by Siegfried Kracauer

Expressionism in the Cinema, written by Olaf Bril, Gary D. Rhodes 

author-img
يدرس السيناريو بالمعهد العالي للسينما وعضو جمعية نقاد السينما المصريين، التابعة للفيبريسي (الاتحاد الدولي لنقاد السينما). كتب لدى العديد من المواقع والمجلات العربية، عمل ضمن فريق مهرجان القاهرة السينمائي، مهتم بالسينما، تاريخها، وعلاقتها بباقي الفنون.

تعليقات