القائمة الرئيسية

الصفحات

 تاركوفسكي في كتابه النحت في الزمن كان له منظور لطيف لموضوع التجارب المُحملة بالألغاز وكان مضمون كلامه إن المخرج بطرحه الكثير من الألغاز بيجعل من المتلقي بعيد تماماً عن غرض التجربة الفنية وهو التواصل معاها شعورياً، ببساطة أكتر فوجود الألغاز بكثرة بيجعل المشاهد يحاول جاهداً فكها وبالتالي هيكرس كل جهده في محاولة الحل بدلاً من محاولة التواصل مع التجربة وجوهرها...


التجربة عموماً مسموح فيها بتأويلات عدة لكن مبدئياً لو حابين نحط نقطة إنطلاق لمحاولة فهمها فهي هتكون الشخصية الهامشية اللي بيتم التركيز عليها في النهاية وهي عامل النضافة العجوز..


بالرجوع لفيلم Buffalo '66 هنلاقي البطل فاشل في حياته ولكنه في محاوله لإثبات نجاحه بيتفق مع بنت إنها تدعي قدام أهله إنها زوجته والسبب هو رغبته في إثبات إنه أصبح شخص ناجح ومستقر، هنا حالة مشابهة الشاب بياخد حبيبته وبيروح بيت أهله علشان يعرفها عليهم رغبة منه في إثبات ذاته ليهم ولكن المختلف هنا إن الحبيبة أصلاً مش موجوده، حتى الأهل مش موجودين..



حيلة لطيفة من كوفمان إنه يجعل المتلقي يمشي ورا البنت ظناً منه في البداية إنه الشخصية المحورية في الفيلم ودعم ده بإنها تكون الراوي والمتعارف عليه سواء في الأدب أو السينما إن الراوي بيحظى بجزء كبير من الثقة من قبل المتلقي ولكن مع الوقت بيهدم الثقة دي بإنه يجعل من البنت نفسها مُشتتة ومتخبطة...


بيتضح إن البنت ما هي إلا أداة استخدمها البطل للولوج للاوعيه وده بسبب إنه لا يملك الشجاعة لاكتشاف نفسه فلجأ لخلق شخصية بديلة تقوم بالمغامرة دي، طب ده سببه إيه؟ 

 

المقابلة بين البطل وحبيبته والأهل بتوضح العلاقة المُتخبطة بين الأهل وابنهم وده سببه إن الأهل دايماً كانوا بيرسموا صورة معينة له وبيتملَكهم نزعة سلطوية سببت في حدوث اختلال نفسي له ترتب عليه عدم ثقته بنفسه وانطوائه على ذاته وده بالمثل اللي بيحصل في فيلم بافالو وبالتالي فهو بدوره في محاولة لاثبات ذاته..


الأهل حتى مش موجودين والدلالة على ده بتظهر عقب ما البطل بيقول لحبيبته إنهم نازلين فوراً وهيقابلوها لكنهم بيتأخروا جداً في النزول، التأخر ده هو الموت الفعلي للأهل وصعوبة استحضار ذكراهم وخلقهم في نمط معين يتوافق مع الصورة اللي كان بيتمناها الإبن، شيء تاني بيحصل وهو إن كل مرة بيظهر فيها أهله بيكونوا في سن مختلف تماماً مرة شباب ومرة في منتصف العمر ومرة عواجيز وده بسبب إنهم مجرد ذكرى في عقل الإبن..


طيب إيه الدليل إن البنت هي مجرد شخصية خيالية خلقها البطل في عقله؟

الدليل هو التطابق والتماهي بين البطل وحبيبته اللي بيتم كشفه مع مرور الوقت، القصيدة اللي بدأت بحكيها في البداية عن الحنين للمنزل واللي اكتشفتها بنفسها في بيت البطل، وقوفهم قدام صورة للبطل وهو صغير وهي تقوله إن دي صورتها وهو بدوره واقف مستغرب لأنه مُصمم على النكران..


طيب ليه البطل ده هو عامل النضافة العجوز؟ 


البنت وهي في رحلتها لاكتشاف منزل حبيبها أو عالمه الداخلي بشكل أدق مسكت تيشيرت له وفي النهاية العجوز بيلبس نفس التيشيرت ودي تفصيلة محبتهاش لأنها شديدة المباشرة والوضوح ومقحمة وكان ممكن الوصول من غيرها..


السبب التاني هو الموقف اللي تعرضله البطل هو وحبيبته لما وقفوا على الطريق يشتروا وقالها إنه مش حابب يدخل هو والبنتين قعدوا يسخروا منه، بالمثل بيحصل لعامل النضافة العجوز لما يمشي في المدرسة ويبدأ التهامس والسخرية حواليه..


الخيال بينتهي فور ارتطامه بالواقع، بينهار، البنت وقت وصولها لنهاية رحلتها في باطن عقل البطل بتلتقي بالعجوز وهنا بيتقبل الحقيقة، بيعلن استسلامة، كوفمان في كل أفلامه بيؤكد على الفكرة دي وهي إن مهما حاول الإنسان الهرب من الواقع هينصاع له في النهاية، هيكون عبد له.. 


في إحالة في النهاية للوحة الصرخة ل Edvard Munch، ولوحة الصرخة هي تعبير عن القلق الوجودي في عالم مُتهالك، هنا العالم المتهالك كان العالم الداخلي للعجوز وفور مواجهته للواقع بيكتشف الحقيقة، حقيقة كونه عجوز وحيد ومنطوي بلا أي هوية..


الصرخة لإدفارد مونك


الفيلم مش هقول عنه تجربة سيئة لكنها كانت تجربة مخيبة للآمال، حسيت بإنها فكرة مكررة لنيورك مجازاً، نسخة مكررة ومُلتفه زيادة عن اللازم، التعقيد في طرحها منعني أتواصل مع حالة البطل ومأساته.. 


فكرة كانت جميلة لكن تنفيذها قلل كتير من ماهيتها. 


- I'm Thinking of Ending Things (2020)

Dir/ Charlie Kaufman

author-img
كاتب سيناريو وناقد مصري

تعليقات