القائمة الرئيسية

الصفحات

الشجرة والصراع الأزلي "بيرجمان، تاركوفسكي، فون تراير"

بعد منع آندريه تاركوفسكي من صناعة الأفلام بروسيا بعد فيلمه المرشد عام 1979 

لجأ حينها لصناعة الأفلام خارج بلده الأم وبعدها أخرج فيلمه الأول بإيطاليا عام 1983 أعقبه الفيلم الثاني خارج بلده الأم والفيلم الأخير في مسيرته 

"The sacrifice" 

تم انتاج فيلم تضحية بالسويد بلد المخرج السويدي إنجمار بيرجمان، وكانت العلاقة قبل ذلك وطيدة بين كل من بيرجمان وتاركوفسكي، في تصريح سابق قال بيرجمان بأن تاركوفسكي هو أعظم المخرجين جميعًا، أما تاركوفسكي فقال أنه لا يهتم سوى بأراء اثنين، إنجمار بيرجمان والفرنسي روبير بريسون..

وعندما تلقى بيرجمان خبر رغبة تاركوفسكي بصنع فيلم عرض عليه أن يكون مكانه السويد وبعد موافقة تاركوفسكي أهداه بيرجمان مصوره الخاص والذي شاركه أغلب أفلامه التي تميز جانبها البصري بفضله وهو

" سيفن ناكافيست" 

وبعد عرض الفيلم قال بيرجمان بأن فيلم تضحية هو الفيلم الذي لم يصنعه ودائمًا ما حَلُم به...

بالفعل لم يخل فيلم تضحية من ملامح سينما بيرجمان، فكانت معضلة البطل الرئيسية هي الإيمان وهو ما افتقدته وعانت منه دومًا شخصيات بيرجمان المعذبة الغير قادرة على الإمان بسبب فقدان قدرتها على الحب..

من العناصر الجوهرية والأهم بفيلم تضحية كانت الشجرة التي يرعاها الأب دومًا وينبه ابنه إلى ضرورة رعايتها والإيمان بأنها ستثمر يومًا ما، وعلى سبيل التحية يحاكي تاركوفسكي مشهد  من فيلم سابق لبيرجمان وهو عذراء الربيع، حينما يذهب الأب الغاضب إلى شجرة ويحاول اقتلاعها من مكانها عنوة نتيجة الغضب العظيم الذي اجتاحه حينما تيقن من موت ابنته..

لا يمكن حصر تلك الشجرة بأنها مجرد دلالة أو رمز  يعبر عن شيء وحيد، إن الرمز في العموم لا يمكن نزعه من السياق وإن كان مجردًا خارج السياق فهو بذلك سيميولجي مجرد خالي من أي بعد، ولذلك فان اقتصاره وحصره هو تقليل من الأبعاد النفسية للتجربة وشخصياتها..


The virgin spring (1960)

في فيلم ينبوع العذراء كان الأب مسالمًا، مؤمنًا حتى اكتشف موت ابنته وتعرضها للاعتداء، حينها سخط على الرب وتعجب من الظلم الواقع عليه وحينها فقط لجأ لانتزاع الشجرة من جذورها، هنا الشجرة ليست بمجرد رمز خارج عن السياق وليست هي بذاتها رمز، أو مرجعية بل هي ببساطة العنصر الذي وقع عليه الاختيار لتفريغ للغضب الكبير داخل نفس الأب، وعند انتزاعه لها من جذورها تبدو وكأنها تجابهه هي والرياح، هنا الشجرة تخدم سياق فيلم بيرجمان وتصبح هي تعبير عن حالة بأكملها وهي القسوة والعنف الذي يملأ العالم ولا يستطيع الإنسان أن يجابهه، هي الظروف التي تمنع المرء من أن يتحلى دومًا بطبيعة خيرة وبدورها تصبح في الأخير سلاح الأب الذي يفتك بأعداءه به، إن الشجرة هي الطبيعة الخيرة للأب وهو يقتلعها فور غضبه وإحساسه بالظلم ولأنه في ذلك العالم فالاحتفاظ بالطبيعة الخيرة يسلب الإنسان حقه..



 

The sacrifice (1986)



  وكانت الشجرة في فيلم تاركوفسكي تضحية بمثابة جوهر الفيلم، فيرى تاركوفسكي أن الخير فيها، برعايتها والإيمان بها، وهنا آلكساندر يحاكي ما فعله الأب الغاضب بفيلم عذراء الربيع ولكن لا يسعى آلكساندر لانتزاع الشجرة، فهو يرى أنها الأمل الأخير في حياة مشوبة بالقسوة وعالم مهدد بالضياع ولذلك فهو يحافظ بدوره على ذلك الأمل الأخير ولا يستسلم ويقوم بانتزاعه مثلما فعل الأب بعذراء الربيع وانقاد بدوره إلى القسوة والظلم الذي يملأ العالم..

ويصعب على آلكساندر تثبيت الشجرة في الأرض، فهي هشة تحركها الرياح وربما تقتلعها في أي وقت، ذلك هو الخير والإيمان كما يراه تاركوفسكي في عالمنا المادي، متهالك بلا أوراق، مهجور من قبل الإنسان ولذلك يجاهد آلكساندر في تثبيت جذور الشجرة في الأرض وغرسها لكي تصمد..


Nymphomaniac (2013)


 عرف عن لارس فون تراير تأثره الكبير بسينما آندريه تاركوفسكي وأيضًا حبه للسويدي إنجمار بيرجمان فيحاكي تراير بفيلمه 

"الشبقية"

مشهد مشابه لما فعله بيرجمان وتاركوفسكي من قبله ولكن بالطبع بما يخدم رؤيته وأفكاره..

إن "جوي" البطلة مصابة بالشبق، رغبة جنسية متطرفة اكتشفتها في الصغر فانساقت وراءها حتى آلت بنفسها للهلاك ويرصد الفيلم ماضي جوي ولعنة الشبق التي اجتاحتها على مدار حياتها..


المشهد الذي تذهب فيه جوي للشجرة هي في ذلك الحين تهرب من عالمها كله فتكون الشجرة حينها في لاوعي جوي نفسها، جوي بدورها لا تتخذ أي رد فعل، فهي لا تأبه في الأساس بالانتقام ومحاربة الشر واتخاذ رد فعل كما فعل الأب الغاضب بفيلم بيرجمان ولا تهتم حتى بري الشجرة ورعايتها، إن نموذج جوي مادي أكثر، متصالح مع طبيعته البشرية، وبذلك فجوي واقعية، مؤمنة بأن ليس لها القدرة في تحديد مصير العالم أو تغييره ولذا فهي تقف عاجزة أمام تلك الشجرة المهجورة والنائية وبدون أي حراك..

إن جوي ككل شخصيات تراير يغلب عليها الأنانية فهي لا تهتم بمصير العالم، أحيانًا لا تأبه بمصيرها نفسه، تؤمن بعجزها وضعفها أمام قوى الشر المهولة التي تملأ العالم وبالتالي فجوي تعي جيدًا عدم جدوى العناد ومحاربة الشر فلا تتخذ أي رد .فعل ويسيطر عليها في الأخير العجز التام وتكتفي بالمراقبة  




 

تعليقات