القائمة الرئيسية

الصفحات

معاناة أن توجد - توريم لبازوليني

 "   عن معاناة الوجود / Theorem " 




افترض فرويد أن القلق الوجودي والاكتئاب المتأصل في الإنسان هما نتاج كبت الإنسان لرغباته الجنسية وعدم البوح بها، أما بعض علماء البيولوجيا فيرون أن القلق الوجودي ناتج عن عدم وجود الإنسان ضمن علاقة حميمية مع طرف آخر تقوم على الثقة والبوح المتبادل للمشاعر بين الطرفين... 


في توريم وفي رأيي هو أنضج تجارب بازوليني وأكثرها كمالاً مع التوغل في اكتشافه فور المشاهدة الثانية يقدم بازوليني مُخلصاً لمعاناة الوجود التي لزمت البشر، وذاك المخلص يأتي زائراً لمنزلٍ لعائلة برجوازية ومبدئه هو تخليص أفراد ذاك المنزل من همومهم عن طريق مشاركتهم لرغباتهم الجنسية والاستماع لمخاوفهم الدفينة وتحرريرهم منها وبذلك فإن مُخلص بازوليني جمع بين الرؤيتين اللتا فسرهما فرويد وعلماء البيولوجيا عن أنهم سبب الاكتئاب الذي يؤرق الإنسان..


إن فكرة وجود مُخلص للإنسانية بوجه عام قائمة على أساس أن المخلص دائماً ما يأتي متحدثاً عن الخير والتسامح والقيم الأخلاقية وإلى آخره ولكن مُخلص بازوليني فإنه لا يدعي ذاك فهو كما يظهر يأتي مُطهراً لذنوب البشر عن طريق تحريرهم الجنسي في البدء وذاك يختلف عن الصورة التى يُري بها المخلصون دائماً كالرسل مثلاً فالجنس حتى لو كان غريزة وفطرة  فعلى سبيل الذكر قد رآه الكاثوليك في القرون الوسطى على أنه خطيئة وذاك كان سبب نبذ المرأة ووصفها بأنها رمز للشر والسحر وبذاك فإن رسول بازوليني يمكن القول بأن طبيعته لا تختلف عن طبيعة الشر حتى...


إن بازوليني يميل لكسر القوالب النمطية دائماً وتجلي ذاك بالظهور في ثلاثيته المتفردة " ثلاثية الميثولوجيا "  وهنا يكسر بازوليني قالبين بتقديمه ذاك المُخلص 

أولهما هو طبيعته التي تتنافى مع طبيعة الرُسل برغم تشابه دوافعه معهم وثانيهم هو أن ذاك المُخلص مبدأه في توعية من يرد هدايتهم هو الإغواء والإغواء بشكل عام مرتبط بالمرأة أكثر أما هنا فيجسد بازوليني الإغواء في رجُلٍ..


إن زائر بازوليني يمكن القول بأنه كالرب فبقرب الأشخاص منه قد اكتشفوا ذواتهم وتحرروا من قلقهم أما عند تركهِ لهم فإنهم يضيعون ويهيمون في الأرض من جديد باحثين عن حلولٍ مختلفة لعِللهم، أما من يعون تعاليم الرب جيداً فإنهم يسيرون على الصراط المستقيم سواء كان الرب متراءياً لهم أم لا ولأنهم لا يحفظون تعاليمه بل يدركونها بقلوبهم وتجلى ذاك في خادمة المنزل فهي الوحيدة التي لازمت الزائر حتى خروجه ممسكةً بأغراضه التي حملها معه حتى النهاية وإن ذاك ليشبه نقل الرسالة من ربٍ إلى رسول أو من رسولٍ إلى رسول فهي الوحيدة التى تعلمت أسمى تعاليم ذاك الزائر وهو مبدأ المشاركة وبالطبع فإن مبدأ المشاركة هنا يمكن تأويله في جهتين إحداهما إنساني والآخر سياسي..  


إن إدراك الخادمة لتعاليم الزائر قد جعلها كالمسيح مخلصةً من حولها من عللهم، تشفيهم وتعلمهم تعاليم الرب وبالتالي فهى امتلكت ما امتلكه الرسل جميعاً وهو المعجزة وذاك ما يجعلها في لحظة قدسية ترتقي إلى السماء وسط ذهول من حولها، إن ذاك العلو ليس علواً ظاهرياً فحسب بل هو خير دليل على علو مكانتها وتفردها وصدق رسالتها...


إن توريما يدعو إلى تغيرٍ جذري، ثورة على النفس، دعوة إلى التمرد على كل شيء والبدء من جديد، وتجلى ذاك في صرخة الأب في النهاية.. 


إن صرخة الأب لا تختلف كثيراً عن صرخة الرضيع فور ولادته فهى ناتجة عن علة الوجود وعدم الفهم أيضاً، لكن قبل أن تكون صرخةً معبرةً في جوهرها عن المعاناة فهي صرخة توحي بلزومية التمرد وكسر كل القوالب..


تاركوفسكي في سولاريس يقول على لسان أحدِ أشخاصه

 " نحن لا نحتاج إلى اكتشاف عوالم جديدة بل نحتاج إلى مرآه "


إن تلك المرآه هي فيلم توريم لبازوليني..

تعليقات