وكلما رأيت أوديبًا تنتابني صاعقة، تضرب كياني وكأنها تذكرني بلعنة الوجود، شعور أن تسقط من السماء إلى الأرض، في ومضة عين، أتذكر حينها الخطيئة الأولى، اللعنة التي لازمت آدم بهبوطه على الأرض ووصم بها جبينه إلى أبد الدهر..
كيف أنسى تلك النظرة التي علت وجه الطفل
في فيلم دينيس فيلينوف
"Incendies"
فمن الوهلة الأولى ترى عينًا تحمل إثمًا، ليس إثمًا عاديًا، وإنما يبدو وكأن عيناه تحمل ثقل الوجود بأكمله ..
المشهد الافتتاحي لفيلم "حرائق" للمخرج دينيس فيلنوف |
وكيف أنسى تلك العيون التي بكت تعزف الناي وهي تائهة في نهاية فيلم بازوليني
، بلا زمان أو مكان، ترثي نفسها، وتأسى لحال الإنسان، معاناته التي لازمته بمجرد وجوده في الأرض
من نهاية فيلم " عقدة أوديب " لبيير باولو بازوليني |
إن أوديب كما في الأسطورة يبدو في الغالب وكأنه ضحية للقدر، ولكن المتمعن في حكاية أوديب ربما يراه ضحية للمعرفة، فالمعرفة هي خطيئة أوديب الحقيقية، إن أوديب يعاقب لأنه سعى لها فكان فيها هلاكه، ولكن ما يمنع الشفقة على حال أوديب هو المعضلة الأخلاقية التي يقع أوديب ضحية لها، حتى أنه أحيانًا يُرى كمذنِب، قاتل ومغتصب..
وأما السينما فهي لا تهدأ، وكعادتها فهي ترى أوديب بعيون مغايرة، تأخذه كعبرة في كل زمان ومكان، ويكون الرثاء والأسف على حال أوديب هو النهج الذي يتبعه مخرجي السينما في محاكاتهم لتلك الأسطورة..
يبدأ الإيطالي بيير باولو بازوليني ذلك الرثاء في فيلمه "Oedipus Rex" عام 1967 فيرى بازوليني أوديب كرجل شهم، حكيم، يسعى للحقيقة لا غير، ليفاجئ فيما بعد بالفاجعة ويقرر كما ورد في الأسطورة أن لا يرى تلك الدنيا، فيفقأ عينيه كي لا يرى إثمه..
أوديب الملك بعد اكتشافه لإثمه من ملحمة بازوليني عقدة أوديب |
ولا ينتهي فيلم بازوليني كما انتهت الأسطورة فنجد أوديب يعزف الناي منتقلًا إلى زمان ومكان آخر، حيث الحضارة، وفي منأى عن زمن الأساطير، وبذلك يرثي بازوليني ذلك الأوديب فيراه ضحية في كل زمن، فهو يعاني جراء الوجود نفسه، وكأنما هو الإنسان الساقط من السماء ليعذَّب في الأرض، ولذلك فبازوليني يعزف رثاءًا له، مطوعًا شاعريته لاختراق الزمن وحيز الأسطورة..
بعد فيلم بازوليني بسنتين، عام 1969..
تصدُر تحفة فنية في اليابان حينما كانت الموجة اليابانية الجديدة حينها في أوج اتقادها، على أيدي أحد رواد الموجة، السيد: توشيو ماتسوموتو باسم
Funeral parade of roses
من فيلم " جنازة موكب الزهور" لماتسوموتو |
ويكون فيلم ماتسوموتو في تلك الحقبة بمثابة ثورة في مواضيع السينما في اليابان، بعرضه لمشكلة المثلية الجنسية، فيتغلل ماتسوموتو بداخل تلك الأوساط ويكشف عن نفسياتهم، ماضيهم وعواطفهم، ولم يفعل أحد من قبلها كما فعل ماتسوموتو، كما كان الفيلم متفردًا، ثوريًا في جانبه التقني لدمجه بين التسجيلي والروائي، وتكون نهاية الفيلم كفاجعة حين يتم الكشف عن العقدة الأوديبية في الفيلم ليكون الفيلم هو محاكاة لمعاناة أوديب، ولكن معاناة من نوع خاص، يعانيها مضطهد في زمانه، ويعيشها بطريقته، وربما هو لا يسعى للحقيقة حتى كما سعى أوديب ولكنه يكون ضحية القدر، هو ليس بنبل أوديب ولا هو بملك لكنه لا يجد مفرًا من معاناته..
تتجلى تلك النزعة الأوديبية أيضًا بفيلم
Incendies
عام 2010، للمخرج الكندي دينيس فيلينوف، المقتبس عن مسرحية بنفس الإسم تم عرضها عام 2003، يبتعد الفيلم بالطبع عن التناول المباشر لشخصية أوديب ولكن تلك اللعنة، لعنة القدر والوجود لا تغادر الفيلم أبدًا وتهيمن طوال الفيلم على الأجواء..
من فيلم حرائق لدينيس فيلينوف |
المثير للإعجاب في تناول فيلينوف لأسطورة أوديب هو رد الفعل الذي يتخذه الأبطال حين معرفتهم بالفاجعة، فأوديب وأمه في تجربة فيلينوف لا يقومان بمعاقبة نفسيهما كما كانت الأسطورة، ربما العقاب في الأسطورة هو عقاب منبعه النُبل، فأوديب فيها لا ينتظر العقاب الإلهي لكونه مخطئًا بل يعقاب نفسه بيديه وبذلك فهو يلتزم بنبله كما كان في البدء، ولكن على الجانب الآخر وبنظرة فاحصة لحكاية أوديب نرى أن أوديب يعاقب نفسه على إثم لم يرتكبه فهو في الأخير ضحية لقدره ورغبته في معرفة الحقيقة، ويكون النقيض لرد الفعل ذلك متجليًا في فيلم فيلنوف فأشخاصه لا يتحلون بتلك النزعة الاستسلامية، وبالتالي لا يعاقبون أنفسهم لأنهما في الأخير كانوا ضحايا القدر والاستبداد، ولذا يكون الصمت هو رد فعل، الاكتفاء بالصمت هو رد فعل كل من أوديب وأمه من هول الصدمة، ولكنهما ببساطة لا يريان نفسيهما كضحايا، مخطئين لكن القدر من أجبرهم، وفي ذلك تمرد بالطبع فهو يشبه تمرد قاين على الإله في رائعة ساراماجو "قاين" ويرفض قاين أن يتم وصمه بالعار وأن قتله لأخيه كان نتيجة التراتيب الإلهية..
ولا يعني ذلك أن الصمت الذي تؤول إليه نهاية فيلم فيلينوف هو نوع من اللاكتراثية، بل بالعكس فالصمت الذي ينتهي به الفيلم هو دلالة على قوة ووقع الصدمة في نفوس أشخاصها فالصمت دائمًا ما ينطوي على ألم عظيم بداخل نفس الإنسان وألم صاحبه هو أضعاف الألم الذي يخرج في صورة بكاء وعويل، وينتهي فيلم فيلينوف بالحب، ببداية جديدة لسلالة أوديب لا تأسف على الماضي وتلك كانت نهاية متفاءلة للأسطورة..
نهاية متفائلة أيضًا لأسطورة أوديب آمن بها المخرج الكوري بارك تشان- ووك في رائعته
"Oldboy"
دي سي اوو من فيلم Old boy |
إن ذلك المشار إليه بالولد والصديق القديم بالطبع لا يمكن إلا أن يكون أوديب، فسعيه للحقيقة عبر الانتقام لا يختلف عن سعي أوديب في معرفة الحقيقة، إن المُغاير في ملحمة بارك تشان ووك هو تعاطيه للحكاية، فالبطل ليس بنُبل أوديب أبدًا، فهو لا يسعى إلى الحقيقة لتخليص بلاده من الطاعون المميت، وإنما بحثه عنها هو لرغبة في داخله بالثأر لنفسه ولذلك فالبطل هنا يترفع عن النبالة، يعترف بحقارته ويتمرد، لا يرى نفسه كضحية ولا تشوبه تلك النزعة الاستسلامية التي انتابت أوديب، فيبدو كمتشرد، قاتل، غير آدمي، ونتيجة لذلك في الأخير يتصالح البطل مع ذلك الذنب الذي اقترفه، ويختار أن لا تكون في حكايته عبرة كما كان أوديب، ولذلك فهو في النهاية يتصالح مع قدره ومعاناته وتنتهي معاناته بالحب، ورغم الثلج الساقط وعذاب الدنيا يختار البطل مصالحة نفسه وماضيه فيبتسم رغم ما به من آلام.
نهاية فيلم Old boy |
تعليقات
إرسال تعليق