بالرجوع إلى الكاتب والفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي فهو يرى أن المثقف العضوي هو ذلك الذي يحتك بالجماهير، لا ينأى بنفسه عنهم، يشاطرهم آلامهم ويدافع عن حقوقهم، وإن لم يكن المثقف كذلك فلا يراه غرامشي مثقفًا من الأساس، لأن عيناه في ذلك الحين تعلوها غشاوة، وتلك الغشاوة بدورها تجعل من صورته مشوهة، غير مكتملة عن واقعه وبذلك فإن كل ما يخرج من ذلك المثقف لا يعد إلا تنظيرًا..
في فيلمه "السبات الشتوي" يقدم التركي نوري جيليان مفهومه ورؤيته عن ذلك المثقف الخاوي، المفتقد لأبجديات مثقف جرامشي، فيراه متقوقعًا في مخبأه، وفي منأى عن الناس، يكتب عن هموم العامة وهو أبعد ما يكون عنهم وعن مشاكلهم، إن عزلته ليست عزلة مكانية فقط، وإنما تلك العزلة بدورها تعبر عن انفصاله الكلي عن العامة من أهل بلدته وموطنه، وشيئًا فشيئًا يكتشف ذلك المثقف خواءه حينما تواجهه أخته بحقيقة الأمر، وحينها ينعكس ذلك الخواء الداخلي على تصرفاته، فيتعرى أمام نفسه ويترائى له ضعفه الذاتي وهشاشة أفكاره، وبعده عن نفسه حتى..
أما بازوليني الذي يعد نفسه رفيقًا لجرامشي ومثالًا أعلى له، ففي فيلمه "زريبة الخنازير" يُمثل عزلة المثقف الفكرية وبعده عن العامة في غرفة صغيرة، لها شكل بيضاوي، تتسع لصاحبها فقط، وكأن أفكاره لا تخرج عن ذلك الحيز الضيق الذي يرى منه العالم، إن ذلك الشاب ينتقد عائلته ونهجهم ويصف نفسه بالثوري، ولكن المفارقة التي تدعو للسخرية هي جلوس ذلك الشاب بينما يتحدث لصديقته عن عزلته وأفكاره الثورية وهو في مكان يشبه البيضة، مطلي بالذهب وفي معزل عن كل ما يحيطه
ويذكرنا ذلك المشهد بفيلم جودار "الصينية"
والذي يتحدث عن مجموعة شباب ثوريين، حالمين، يتخذون من شعارات الثورة والفلسفة والأدب منهجًا لهم، ولكنهم في الأخير لا يقفون على أرض خصبة في الواقع، ولا ينغمسون في شؤون العامة وينتهي الأمر كله حينما تنتهي عطلتهم الصيفية، تلك كانت مفارقة للسخرية أيضًا من جودار، ينتقد فيها ذلك النوع من الثوار، الذي يتخذ من الثورة والثقافة كيفية للمتعة في أوقات الفراغ، للشعور بكيانهم وبأن لهم هدفًا أسمى ولكن تلك الرغبة لا تدوم وسريعًا ما تزول لأنها صبيانية وحالمة، غير حقيقية...
يبدأ المجري بيلا تار دائمًا من حيث انتهى إليه غيره، فتار تشاؤمي، عدمي وكعادته فهو فاقد لكل أمل، وبالتالي فشجرة تاركوفسكي في فيلمه تضحية التي تدب فيها الحياة تظهر عند تار شجرة جافة، ذبلت أوراقها وماتت..
يتجسد فقدان تار للأمل في التغير وفي الثورة في شخصية يطرحها بفيلمه
"تانجو الشيطان"
وتكون تلك الشخصية هي بمثابة المثقف العدمي، فهو المثقف الذي لا يأبه بالناس ولا بأحوالهم، فيكون فاقدًا للأمل فيهم، متعصب لأيدولوجيته ومترفعًا عن الوحل الذي يراهم متوغلين فيه، وليس ضروريًا أن يكون ترفع ذلك المثقف ناتجًا من برجوازيته أو أحلامه الوردية واتخاذه من الشعارات الثورية منهجًا، بل يرى تار ذلك المثقف كشخص توغل في أمور العامة حتى سأم أمورهم، وكأنه يعرف ما تؤول إليه الأمور في الأخير، ولذلك يرصد ذلك المثقف أهل القرية دائمًا من وراء الزجاج، يطلق أحكامه عليهم من بعيد، ليس خوفًا منهم بالضرورة كحال شخصيات تار في تجاربه الأخرى، بل هو أشبه بالضجر واليقين باللاجدوى، وبالطبع فإن ذلك المثقف يختلف اختلافًا جذريًا عن المثقف الخاوي، ولكنهما يتلاقيان في بعدهما عن العامة ولذلك فهما يشتركان في نفس الغشاوة التي تغطي العين والتي بدورها تحجب عن عيونهم الحقيقة.
تعليقات
إرسال تعليق