القائمة الرئيسية

الصفحات

الشاعر والسيناريست الأوفر حظًا "عن مسيرة تونينو جويرا"

 دائمًا ما يكون التعميم المطلق عند مدح فنان بقول أن له الأفضلية على غيره سواء كان، ممثل، مخرج أو كاتب هو إنعكاس لقصور في الرؤية 

ربما لأن لكل فنان أسلوب، كيفية يعبر بها عن ذاته ويرجع الأمر في النهاية إلى التفضيلات الذاتيه عند كل متذوق للفن..

ربما يكسر تلك القاعدة بعض الفنانين، فلا غبار على أفضليتهم، ربما لريادتهم وفنهم دائم الأثر، أسلوبهم الذي يميزهم على كثير من غيرهم و إساهاماتهم المتفردة في إثراء الفن..


الشاعر تونينو جويرا

When I was young, I started making small watercolors. Then I found myself in a prison camp and the word took over. I think that being a poet is my greatest desire. And there is always poetry behind everything that I do…

-Tonino guerra/ born in 1920..


تونينو جويرا الشاعر والسيناريست الإيطالي هو واحد من هؤلاء القلة المختارة، فله أسلوبه الذي يميزه ككاتب فتتجلى أشعاره دائمًا على الشاشة، حتى الصمت في نصوص جويرا يكون له وقعًا في النفس،

كان لمخرجي إيطاليا النصيب الأكبر في نصوص جويرا فعمل مع تورناتوري وفيلليني، آنطونيوني وباولو تافياني

 وكان أقربهم إلى قلبه العزيز فيلليني وأكثر أعماله مع مايكل آنجيلو آنطونيوني

ما يحبذنا لقول أن جويرا كان السيناريست الأكثر حظًا ليس لوفرة حظه بالطبع، فجويرا يستحق بالفعل أن يكون السيناريست الأعلى شأنًا دائمًا، ليس لعظمة نصوصه أو تنوعها فقط، لكن بإسهاماته مع أثقل شعراء السينما كمثل تاركوفسكي وثيو أنجيلوبولوس وأنطونيوني وامتدت دائرة جويرا ليعمل مع المخرج التونسي ناصر خمير في ثلاثيته الصوفية الصحراء وخاصة في فيلم بابا عزيز الأمير السابح في روحه..

المُلفت في عمل جويرا مع قامات مثل فيلليني وأنطونيوني وتاركوفسكي وأنجيلوبولوس هو أن ما يشترك فيه جميع هؤلاء هو أنهم يعتزون بانتماءهم لنهج 

"سينما المؤلف" 

فبمجرد رؤية أي فيلم لأي واحد منهم ليس من العسير معرفة مخرج الفيلم،..

ومن المتعارف عليه أن المنتمين إلى سينما المؤلف معتزون برؤيتهم، فيرفضون إقحام الغير فيها خوفًا من افسادها ولذلك فعمل جويرا مع هؤلاء هو ما يثبت تميزه وأحقيته نظرًا لثقتهم الشديدة فيه..


من نال النصيب الأكبر من نصوص جويرا كان العزيز اليوناني ثيو أنجيلبولوس

فعمل معه ب 

Eternity and a day, Voyage to Cythra, Ulysses' Gaze, Landscape in the mist, Trilogy: The Weeping Meadow, The Suspended Step of the Stork,The beekeeper..


جويرا وثيو أنجيلبولوس



أكثر ما يمكن لمسه في نصوص جويرا هو عامل الزمن، فالايقاع عند جويرا يختلف عن أي كاتب سيناريو آخر، إيقاع يتماشى ويتناسب دائمًا مع سينما الشعر، تلك التي تتسم بالتأمل، بفقدان الزمن والغرق فيه؛ فتذوب الفوارق الزمنية في نصوص جويرا وتذوب شخصياته حنينًا إلى مشاعر وشخوص وأشياء قد فنت بدورها في طيات الزمن فتهيم شخصياته أملًا في بعثها من جديد..

يتجلى ذلك بشدة في الأعمال التي شارك فيها جويرا ثيو أنجيلبولوس

فتتميز نصوص جويرا مع أنجيلوبولوس أن جميعها يدور في عالم واحد، فدائمًا ما تفتقد الشخصية الرئيسية لشيء ما، كيان كالأب، انطوى ذلك بالطبع على افتقاد أنجيلبولوس لأباه الذي تم اعتقاله فحرم منه، ولذلك فدائمًا ما تهيمن نزعة الافتقاد تلك على سينما أنجيلبولوس، أيضًا يهيمن على تلك النصوص افتقاد المحبوبة آنا التي تهيم في عقل كل من أبطال فيلميْ مربي النحل وتمتد حتى إلى فيلم الأبدية ويوم..

إن جويرا بمشاركة أنجيلبولوس قاموا بخلق فلك واحد تدور فيه كل شخصياتهم المعذبة، المشتاقة حنينًا، عالم طغى عليه اللون الأزرق بدفئه وبرودته..

وحاز جويرا على جائزة مهرجان كان عن فيلمه رحلة إلى كيثيرا من إخراج ثيو أنجيلبولوس



 أما أعمال جويرا مع أنطونيوني فالزمن غائب، ففقدان الزمن يخيم على تلك الأعمال وخاصة في ثلاثية الانحطاط وهو من أهم سماتها..


جويرا برفقة أنطونيوني


 إن شخصيات الثلاثية يمكن القول أنها شخصيات منحطة، فاقدة لذواتها، إن غياب ذوات تلك الشخصيات ينعكس على غياب زمني أيضًا يتجلى في أجواء الثلاثية وتبعًا لذلك الغياب تغرق شخصيات أنطونيوني في مللها الذاتي وتتجه نحو إنحطاط أخلاقي كامل نتيجة ذلك الفقدان ويخدم ذلك بالطبع سينما أنطونيوني ذات الاتجاه الأنطولوجي الذي امتازت به الثلاثية أيضًا..

الثلاثية هي 

The adventure, La notte, The eclipse..

ويخيم على أجواءها تبلد المشاعر، تتعمق في العلاقات العاطفية وتعطيها بعدًا وجوديًا، فالبحث في فيلم المغامرة على سبيل المثال لا يقتصر على أن يكون بحثًا عن شابة ضائعة، بل هو بحث عن تراث ضائع وجيل فاقد لهويته وفي طريقه إلى الهاوية، وفي آخر أفلام الثلاثية وهو فيلم الخسوف يعبر أطونيوني برفقة جويرا عن ذلك الموت بالفقدان التام للزمن

...بالصمت المطبق الذي لا يعقبه شيء 


عمل جويرا مع فيلليني بأفلام كثيرة هي 

Amarcord, And the ship sails on, Ginger and Fred, Cassanova

وما يجمع تلك التجارب هو واقعيتها السحرية، والتي يمتاز بها فيلليني بالطبع، فكانت تجارب ذات حميمية متفردة في سينما فيلليني وخاصة في فيلمه الأكثر ذاتية 

Amarcord


جويرا وفيدريكو فيلليني

وإن كانت معظم مشاركات جويرا لا ترتقي إلى مستوى أفلام فيلليني الأولى فربما لأنها أتت متأخرة بعض الشيء وكان إتجاه فيلليني مختلف حينها إلا أن تلك المشاركة نمى بسببها فيلم من أكثر أفلام فيلليني تميزًا وأكثرهم رقة وعذوبة هو أماركورد..


امتدت تلك الحميمية والرقة أيضًا لتطول كل من تورناتوري في فيلمه 

Everybody's fine

وتجربتيْ باولو تافياني 

The night of shooting stars, Kaos

فكانت كلها أفلام ساحرة ذات وقع خفيف تسيطر عليها رومانسية حالمة بواقع أخف وطأ..


أما العمل الذي جمع كل من جويرا وتاركوفسكي كان فيلم تاركوفسكي 

Nostaliga (1983)


جويرا مع أندريه تاركوفسكي


وكان العمل الأول لتاركوفسكي خارج روسيا وربما استمد تاركوفسكي ثقته في جويرا من خلال إعجابه بكل من أنطونيوني وفيلليني وخاصة الإعجاب الكبير الذي يكنه تاركوفسكي لسينما أنطونيوني..

فكان نوستاليجا فيلمًا عن الحنين الذي يقاسيه الفنان المنفي من وطنه، ويلعب الزمن دورًا رئيسيًا في نوستاليجا في التنقل مابين الواقع والوهم وذكريات الماضي وعالم الأحلام..

ربما نوستاليجا هو حنين قاساه جويرا أيضًا لأنه عانى من الاعتقال في السجون النازية عقب الحرب العالمية الثانية..

 أنجيلبولوس بأحد لقاءاته حَكى عن مقابلته لتاركوفسكي أثناء صناعته لفيلم نوستاليجا في إيطاليا وأنه كان يقطن هو وجويرا وتاركوفسكي في ذات المسكن

وعن الحوار الحميمي الذي دار بينهم عن أصل كلمة نوستاليجا والتي كان تاركوفسكي يعتقد أن لها أصل روسي بينما أثبت أنجيلوبولوس أنها كلمة يونانية الأصل..

كان يجمع بين جويرا وتاركوفسكي رابط صداقة قوي فدائمًا ما تلقى تاركوفسكي الإشادة من جويرا عن موهبته الفذة

كذلك لقب جويرا موهبة تاركوفسكي في فيلم النحت في الزمن

وشارك جويرا في كتابة أكثر الوثائقيات التي تناولت حياة أندريه ك

Voyage in time

 Moscow Elegy لآلكسندر سوكروف

و فيلم عن كواليس صناعة نوستاليجا

كما كتب جويرا نصوصًا سينمائية لتاركوفسكي للأسف لم تخرج للنور نظرًا لوفاة تاركوفسكي مبكرًا


تونينو جويرا برفقة تاركوفسكي وأنطونيوني


.في الذكرى التاسعة لرحيل الشاعر تونينو جويرا




تعليقات