القائمة الرئيسية

الصفحات

 قِلة في السينما المصرية من استطاعوا إثبات أن الإبداع هو مسألة كيف لا كم وعلى أصابع يدٍ نذكر شادي عبد السلام، داود عبد السِيد، محمد أمين، أسماء البكري، وأخيرًا أسامة فوزي..


وفي التجربة الأولى للمخرج أسامة فوزي يكشر عن أنياب روحه المتمردة، الحرة التي تتنصل من قيود المجتمع والحياة نفسها، تمرد من نوع آخر ربما هو وجودي.. وفي تجربته عفاريت الأسفلت عام ٩٦ لم يكن إسم الفيلم مجرد وصف عابر لمفهومنا العامي عن "العَفرتة" بل هو وصف دقيق لشخوص أسامة في ذلك الفيلم فشخصيات الفيلم جميعها أقرب للعفاريت، الأبالسة في تصرفاتهم فهم يقومون بها خفية، تتجلى حقيقتهم في الخفاء، في الغرف المغلقة والأماكن المظلمة، الجميع خداع بطبعه والكل في حالة هروب دائم من العالم الحقيقي السوي في ظاهره ولكنه مملوء بالحقد والكراهية والألم، عفاريت تحركها الغرائز، سعي مستمر إلى المادة وإشباع الجسد وغياب تام للروح..


أما عن تجربته الثانية وهي جنة الشياطين عام ٩٩ فهي مثال رائع ومتفرد في محاكاة فن الرواية إلى السينما.. 

والرواية الأصلية هي بعنوان ميتتان لرجل واحد للكاتب جورج آمادو.. 


 هنا يختار أسامة أن يحارب الواقع بالسخرية ويسخر حتى من الموت نفسه فطبل"محمود حميدة" لا تنتهي سخريته من الواقع وتمرده عليه بموته بل بعد موته ترافقه ابتسامه ساخرة موجهة إلى أصدقاءه العابثين، عائلته دائمة التغني بالمظاهر المجتمعية والحياة بما يشوبها من عَبث، في الرواية الأصلية يموت البطل ميتتين..

 الأولى هي مفارقة الروح للجسد والثانية هي زوال الجسد وبذلك زوال نهائي للبطل روحًا وجسدًا ولكن أسامة فوزي يختار ميتة واحدة ل "طَبل" وهي ميتة الروح وأما جسده لا يفارق العالم وبذلك فهو في النهاية يستمر في رفقة أصدقاءه الشياطين رغبة في التزود اللانهائي من المادة معبرًا عن ذلك بالبقاء الأزلي للجسد وذلك ما تؤول إليه تجربته الأولى عفاريت الأسفلت أيضًا..


التجربة الثالثة للمبدع أسامة فوزي وهي تُمثل بالتأكيد نضجه الفني هي فيلم بحب السيما عام ٢٠٠٤... 

 وإن كانت الغرائز والأفعال الشيطانية هي المحرك الأول لشخصيات أسامة فوزي في فيلميَّه السابقين فهو هنا في طريقه لمحاولة قمع وكبت تلك الأفعال وتتمثل تلك المحاولة في عدلي الذي يمنع عائلته دائمًا من فعل الآثام وبالطبع فهو يمنع نفسه ولكن في النهاية تنتهي تلك المحاولة بالفشل فيجد عدلي أن الإنسان لابد وأن يجد مخرجًا يعبر فيه عن نفسه وأن التضييق الشنيع للذات يفضي إلى موتها في الأخير ولذلك فلابد للإنسان أن يعترف بحبه، بضعفه وعجزه وقلة حيلته وبالطبع يجسد أسامة فوزي النعيم في "السيما" والشغف لها متجسدًا في الطفل نعيم بوصفها ملجأ للأرواح التائهة وبالطبع فهي الحلم البريء الطاهر والملاذ الآمن.. 


وفي فيلم بالألوان الطبيعية عام ٢٠٠٩ وهو التجربة الأخيرة لأسامة فوزي يرصد فيه الصراع القائم بين الفن والمجتمع فيضع يوسف الشاب المتيم بالفن مقابل مجتمعه في محاولة لإثبات ذاته وإثبات أصالة الفن في مجتمع مشوه مملوء بالقيود..

 

ربما أسامة فوزي هو واحد من أولئك القلائل الذين اختاروا رصد الواقع بصدق تام والذي يكره الكثيرون رؤيته أو الاعتراف به حتى ولم يختر أسامة الطريق المعتادة في مواجهته بل اختار الهروب منه، الهروب إلى وجود آخر، إلى الحلم وإلى الفن كموطن أخير ولم يقتصر أسامة على عرض صراع قائم ظاهري بين الفرد ومجتمعه بل ذهب لأبعد من ذلك وتسائل عن كينونة الإنسان ورصد العبث الذي لا تخلو الحياة منه وكره القيود التي تحيط الفرد وتجور على حريته جاعلًا التمرد هو القيمة الأسمى لسينماه.



في الذكرى الثانية لرحيل الفنان أسامة فوزي..


تعليقات