" بالنظر إلى الأفلام التي حققتها حتى اليوم اكتشفت بأنني كنت دائماً أرغب بالحديث عن أفراد ممسوسين بالحرية الباطنية على الرغم من كونهم محاصرين من قبل الآخرين الذين هم داخلياً خاضعون وغير أحرار.. الضعف الجلي لأولئك الأفراد يتصل بقناعة أخلاقية واستشراق أخلاقي وهذا الضعف في الواقع علامة قوة "
- أندريه أرسيني تاركوفسكي من كتابه " النحت في الزمن "
من مقولة تاركوفسكي ينبع السؤال.. كيف يرى تاركوفسكي أن الضعف هو القوة الأكبر؟ وهل وجد ذاك في سينماه بشكلٍ جلي؟...
عندما سئُل أندريه من هم الشعراء كان جوابه
" الشعراء هم من يخلقون عوالمهم الخاصة "
ومن خلال ذاك الجواب والمقولة التي سبقته يتضح جزء كبير من نهج سينما تاركوفسكي ومن الطريق الذي تتبعه شخصياته..
إن تعريف تاركوفسكي للشاعر هو الشخص الذي بدوره يخلق عالماً خاصاً، وإن صفة العالم الخاص لا تنطبق بدورها على عالمنا الواقعي لأن العالم الواقعي ينطبق على عموم البشر ولا يتماشى مع أهواء كل فرد بل يفرض نفسه على الكل سواء، يكون ملموساً ومحسوساً لهم، أما ذاك العالم الخاص فهو ينبع من الفرد نفسه ويتماشى مع أهواءه هو وبذلك فشرط وجود ذاك العالم الخاص ينبع من كون ذاك العالم عالماً بديلاً أي موازياً للواقع يخلقه الفرد نفسه ويغير فيه كما يشاء ليصبح ذاك العالم البديل هو واقعه الذي ينعم فيه بما يريد، وإن الشاعر هو كل من اقتدر على خلق ذاك العالم ولكن في النهاية فإن ذاك العالم لا يصبح ملموساً أو قابلٍ للتحقيق وبذلك فإن صفة شاعر تقترن اقتراناً وجوبياً بكون ذاك الشاعر حالماً، لأن خلق عالم بديل هو في الأساس حلم فهو منافٍ لما يفرضه الواقع الذي نلجأ إليه في الأخير ونلمس وجوده المحسوس وبذلك فهو ضرب من الخيال ولكن تاركوفسكي يملك إيماناً عظيماً فيرى أنه بذاك الإيمان قد تتحقق المعجزة في العالم الواقعي نفسه وهذا ما آمنت به شخصياته بدورها أيضاً...
بالرجوع إلى تجارب أندريه والتدقيق فيها وتأمل أشخاصها وجوهر أفعالهم فإنهم جميعهم بلا استثناء حالمين، يأملون عالماً خاصاً، مداومون في محاولة خلق عالمٍ بديلٍ ومثالي ف تاركوفسكي يرى أن الجمال محجوب عن أعين الذين لا يبحثون على الحقيقة ولذا فهو بدوره وف كل تجربة له يحاول جاهداً أن يجعل من المتلقي مشاركاً لشخصياته في تلك العملية، عملية إدراك الجمال..
إريك فروم في كتابه فن الحب يذكر طرقاً عده لمعرفة جوهر الإنسان، لإدراكه إدراكاً كاملاً ومن تلك الطرق وأقساها هي تدميره في البدء ومن ثم يصبح النفاذ إلى جوهره أمراً يسيراً، يشبه فروم تلك العملية بالطفل الذي ينفرد بلعبته فيبدأ بتفكيكها وتحطيمها لمعرفة سرها وآلية عملها وأما عن عملية التفكيك تلك فلا تختلف عن الكيفية التي اتبعها تاركوفسكي...
في أفلامه فهو يلجأ دائماً إلى "التعرية" تعرية دواخل أشخاصه عن طريق الإفصاح عن دواخلهم، وإني أرى أن نهج التعرية يتوافق أكثر مع سينما إنجمار بيرجمان أكثر من سينما تاركوفسكي فبيرجمان يتبع آلية التدرج في كشف شخصياته ويكنفها في البدء بنوع من الغموض ويبدأ بالكشف شيئاً فشيئاً ومن ثم تتعرى شخصياته بشكل كامل فيصبح منها السيء ومنها الجيد ولكن عند تاركوفسكي فلا نجد ذاك التدرج فتاركوفسكي يكشف عن شخصيته في البدء ولا يكنفها بطوق الغموض فلا يجد المتلقي صعوبة في كشفها وادراكها ولو على الأقل ظاهرياً في بادئ الأمر، يتشارك أبطال تاركوفسكي دائماً في ضعفهم الظاهري عن من حولهم فيكونون أكثر الناس هشاشة وفي تلك الهشاشة تكمن قوتهم، إن قوة تلك الشخصيات تكمن في إدراكهم للحقيقة، لحقيقتهم على الأقل، فكما ذكر فروم أن التدمير هو كيفية من كيفيات إدراك الجوهر تمتثل شخصيات أندريه لذلك المبدأ فتمسي جميعها، منهكة من الحياة، هشة في الواقع لكن قوية على المستوى الروحي وبذلك فهم أكثر قرباً وإدراكاً للحقيقة عن سواهم وذلك ما يميزهم في نظر أندريه فإنه برغم ضعفهم مدركون لذواتهم ولا ينكرونها
بإيجاز
" إن كنت ضعيفاً ومعترفاً بضعفك كنت أكثر صدقاً وذلك يجعل منك أكثر قرباً وفهماً لذاتك ولجوهرك وبالتالي فأنت أكثر قوة مِن أولئك الذين يدعون امتلاكها"
ماذا يتولد بعد اليقين ؟
بعد يقين تلك الشخصيات وإقرارها بضعفها يلزم ذاك حلاً للأزمة، مهرباً منها وملجأ..
إن الإيمان عند تاركوفسكي هو الملجأ الأخير..
ف أناساً يعوزهم القوة لن يبلغوا الاطمئنان في عالم أُغرق في المادية وبالتالي فما أمامهم سوى الإيمان بالمعجزة، بالحلم الذي يوجد في عالمهم البديل وذلك أيضاً يثري قيمة الحرية بالنسبة لشخصيات تاركوفسكي...
يلجأ أبطال تاركوفسكي إلى الحلم كحل أخير وبذلك فهم دائماً في نظر غيرهم موهومين، مقترنين بالجنون ولكنهم لا ينفكون عن صنع عوالمهم الخاصة وربما من أجل إيمانهم اللامحدود يجعل تاركوفسكي إمكانية وجود عوالمهم الخاصة تلك حقيقية فيصبح العالم مكاناً آهلاً للمعجزات حتى لو لم تكون ملموسة لأولئك الذين فقدوا روحهم..
إن دومنيكو في فيلم حنين
على سبيل المثال يحذو حذو شخصيات تاركوفسكي وربما يمتلك الإيمان الخالص مثلها وبالتالي يظن أن الانتحار هو عملية قربان ولكني أرى أن في ذلك اختلافاً عن باقي شخصيات تاركوفسكي فهي لا تستسلم بل تكمل حربها مع العالم حتى وإن اختارت أن تخلق عالماً مثالياً خاصاً، إن دومونيكو بعد نبذه من الناس ومن فرط ارهاقه في ذاك العالم الواقعي يستسلم وينتحر مضرماً في نفسه النار على عكس البطل فهو يحارب من أجل المعجزة مؤمناً بالإسطورة لأجل تخليص العالم من الشر وذاك الإيمان الخالص هو ما يتحلى به أبطال أندريه دوماً وذاك هو العالم الخاص الذي يعيدون خلقه..
البطل في فيلم تاركوفسكي الأخير تضحية
يهب نفسه كقربان منه للإله كي يخلص العالم من شر القنبلة النووية ولا يكتف بوهب روحه فقط بل يهب جسده وكل ما يملك إزاء تخليص العالم من ما يشوبه من شرور وهذا هو الإيمان الخالص كما يراه تاركوفسكي، التسليم التام الذي بدوره يخلق المعجزة.. كيف ينتهي به الأمر؟
إلى مشفى المجانين وذلك أيضاً هو مصير بطل فيلم تناغمات فيركمستر والذي بدوره يهيم في مدينة تناست قيمة الروح وفقدت الإيمان...
المرشد في فيلم
Stalker
يؤمن بالمعجزة أيضاً، يرى الغرفة حلاً لكل مشكلة ولكن جميع من حوله يصفونه بالجنون ويدعونه محتالاً وذلك يرجع إلى قلة إيمانهم، ففي عصر المصانع والتكنولوجيا فقد الناس إيمانهم واتجهوا نحو المادية والعقلانية مهملون لقيمة الروح التي يعيها المرشد وحده وذلك ما يجعل من المرشد منبوذاً، مُحبطاً فتكون الغرفة هي حلمه الخاص وملجأه النائي عن ذاك العالم..
في فيلم سولاريس يذهب البطل إلى كوكبٍ آخر بداعي الفضول والرغبة في الاكتشاف واهماً نفسه أنه من خلال انتقاله من عالم مادي إلى مادي آخر ربما سيتناسى علته ولكن يدرك في الآخير أن الشائبة تكمن في الروح.. فيصبح الحلم هو سبيله الوحيد لا للتحرر بل بالتسليم إلى حقيقة أن الروح هي الملجأ الوحيد والاعتراف بوهنها هو الحقيقة.. فيخترق قوانين الزمان والمكان راكعاً في حضن أبيه آسفاً على خطيئته...
أما في مرآة تاركوفسكي فالزوجة لا تفقد الإيمان بعودة زوجها، تنتقل بين الواقع والوهم والحلم باحثةً عنه مؤمنة بعودته وأما البطل فيعترف بوهنه وعدم قدرته على الحب وإن الضعف لسيطير على أجواء فيلم المرآة بشكل جلي وربما ذلك ما يجعل منه أكثر أفلام تاركوفسكي شفافيةً وقرباً من الروح فالضعف الذي يسري بهواء المرآة هو الضعف الذي يعتري كلً فردٍ ويهبه ذاك الشعور الذي يملي عليه الصمت لعدم قدرته على صياغة ذاك أو وصفه عن طريق الكلمات..
وعن أندري روبليف فهو يفقد إيمانه بالخير والحب الذي تربي وترترع عليه حين يرى البطش والوحشية، فيهيم في ذاك العالم باحثاً عن ضالته، عن المعجزة ولا يفقد إيمانه بالحلم بل يداوم السعي وفي الآخير تتجلى المعجزة في ذاك الطفل إبن صانع الأجراس الذي يمثل له الحب والأخير والإيمان الخالص فيلتحمان معاً في تناغم تام وكأنها عودة الروح للجسد..
ربما يعتبر إيفان حالة خاصة بعض الشيء فهو الوحيد الذي يحارب مادية العالم ويخوض في ذاك الواقع ممتثلاً لقوانينه ولا يفرض قوانينه الخاصه عليه كأقرانه من أبطال تاركوفسكي فيهرع إلى الحرب بلا خوف وتردد، إن ما يحرك إيفان هو الغضب والرغبة في الثأئر لطفولته وليس الإيمان هو محركه وذلك سبب امتثاله للواقع ولكن حتى إيفان الذي يعتبر حالة خاصة في أفلام أندريه فهو لم يتخلى عن الحلم بل تزوره أحلامه بين الحين والآخر، أحلامه التي كان يجب أن تكون واقعه وهو بدوره يتماهى معها تماهياً تاماً حنيناً إلى واقعه الذي لم يكتمل، إيفان تحلى بالإيمان أيضاً فحين يفنى يرجع إلى عالم أحلامه الذي خلقته براءته وفطرته فيكون من فرط الخفة كطائرٍ فرح يجري فوق المياة ، كالمسيح وهو يمشي على الماء وهل كان المسيح أن يمشي على الماء إن لم يملك الإيمان؟
" هل يوجد أي أمل في النجاة على الرغم من كل علامات الصمت الوشيك؟
ربما يمكن العثور على الإجابة في أسطورة الشجرة الجافة المحرومة من المياه في فيلم قربان...
الراهب يحمل دلواً،صاعداً التل يخطو خطوة فأخرى، يحمل الماء ليروي الشجرة الجافة مؤمناً على نحو مطلق بأن ما يفعله ضروري، دون أن يتردد للحظة في اعتقاده بالقوة الإعجازية لإيمانه بالله ولقد عاش ليرى المعجزة...
ذات صباح : الشجرة تنفجر بالحياة، أغصانها تتغطى بالأوراق الصغيرة الطرية"
إن تلك المعجزة ليست بالتأكيد سوى الحقيقة..
- خاتمة كتاب النحت في الزمن لأندريه تاركوفسكي
تعليقات
إرسال تعليق