القائمة الرئيسية

الصفحات

عن سينما البولندي أندريه زولاوسكي

 " أندريه زولاوسكي بين العبقرية والجنون والفوضى المُطلقة"


يرى جان لوك بأن حالة الطبيعة هي في الأساس حالة  يسودها الحرية والمساواة والسلام ويرى جان جاك روسو أن الإنسان والطبيعة فطرتهما الأساسية كانت الخير والنظام والعدل ولكن ومع مرور الزمن ساد الشر وسيطر على الطبيعة والإنسان وأما توماس هوبز فيرى بأن الكون ومنذ البدء في حالة فوضى مطلقة وأن كل إنسان بطبيعته هو ذئب بالنسبة للآخر وبذلك فإن كل إنسان بدوره عدو للآخر واستمراريته تتوقف على فناء الآخر ... 


وبالحديث عن سينما البولندي أندريه زولاوسكي فيمكن القول بأنه يتخذ نهج هوبز ويطوعه سينمائياً بما يخدم أفكاره وبالنظر إلى نهج هوبز كمنهج يتبعه زولاوسكي يصبح من اليسير تفكيك وتحليل سينماه بما فيها من جنونٍ، عبقريةٍ وغموض ولا يكتف زولاوسكي باتباع نهج هوبز ولكنه دائماً ما يكون متأثراً بالأدب والفلسفة في المقام الأول..


إنه وفي فيلمه الأكثر غرابةً وغموض

 Possession


يناقش زولاوسكي فكرة المس الشيطاني ولكنه لا يكتفِ بالعرض المعتاد كما اعتاد الصناع تقديم تلك التيمة بل يتخذ ذاك الصراع شكلاً فلسفياً يجسد الصراع ما بين المرئي واللامرئي، الجوهر والشكل...

وبالرجوع إلى نهج أرسطو فإنه يقول بأن اللامرئي أو الجوهري لا يمكن الوصول إليه إلا إذا اتخذ شكلاً، مرئياً في عالم الوجود وفي حالة عدم وجود ذاك الشكل الخارجي فإنه لا يمكن الوصول للجوهر لأنه في حالة ركود والشكل هو ما يعطيه المرونة وبذلك فإن أرسطو يرى بأن الشكل متساوٍ في أهميته مع الجوهر ولا يقل أهمية عنه في تفسير ماهية الأشياء... 

إن ذلك ما يفسر الظهور المفاجئ لذلك الكائن الغريب القابع في عالم الفيلم وإن تم تأويله على أنه مس شيطاني أو حتى شكل يتخذه هوس الامتلاك عند البشر، وفي الحالتين  هذا ما يثري أهمية الشكل وتجسيد  اللامرئي بالنسبة لزولاوسكي وبالطبع ما من منقذٍ في ذاك العالم فهو بلا غاية ويخيم الشر عليه..   


أما وفي أعظم أفلام زولاوسكي وأثرى التجارب السينمائية في العموم وأكثرها شذوذهاً 

On the silver globe 


فيقدم زولاوسكي نسخته الخاصة والمتفردة لرحلة المسيح إلى الأرض أو بشكل أدق يمكن القول أنه يخلق، يعطي للبشر فرصة ثانية لمحاولة العيش في سلام فيهديهم كوكباً جديداً الحاكم فيه هو الفطرة والطبيعة البشرية ولكن بما أنه يتفق مع هوبز في أن الطبيعة البشرية أساسها الشر فإن البشر بدورهم يعاودون الخراب، يعذبون مُخلصهم من جديد مُتخذين بعضهم أعداءاً في صمت تامٍ من الاله وهذا بدوره ما يخلق الفوضى...


أما عن فيلمه 

The devil (Diabel) 


فهو أشبه بمحاكاة فاوست للألماني جوته، وإن تم النظر لرواية جوته أو لأسطورة فاوست فإنه ببساطة يمكن استنباط بأنه صراعاً بين البراءة والفطرة الخيرة للإنسان والشر الموجود بداخل الشيطان ولكن بالرجوع إلى النهج الذي اتخذه زولاوسكي فإنه يحور أسطورة فاوست لما يخدم أفكاره الخاصة وبدوره فإنه يجعل من الفطرة الإنسانية نفسها تميل للشر والفوضي وبذلك يصبح الإنسان شيطاناً بطبيعته، ساعياً في دمار الأرض وفي الآخير يصبح الشيطان هو عدو للإنسان نظراً لمبدأ أنه ذئب بالنسبة للآخر يصارعه على الاستمرارية...


أما الحالة الوحيدة في أفلام زولاوسكي والتي تعتبر مغايرةً لما يراه هو فيلمه 

Mad love  


والمقتبس عن رواية الأبلة لدوستويفسكي


يتفق زولاوسكي في البدء مع روسو فيرى بأن الطبيعة الإنسانية هي الخير وهذا ما يجعل البطل في تلك التجربة يميل للخير وأما علته فتكون الحب.. ولكنه سرعان ما يتدارك نفسه ويعي كونه أبلهاً لأنه في عالمٍ يسود فيه الدمار من العسير أن تفرض تلك الفطرة الخيرة نفسها وبالتالي فإن أبله زولاوسكي سرعان ما يتحول إلى ذئب ليجاري من حوله من الذئاب في ذاك العالم الفوضاوي وهذا ما يجعله في الآخير  متناسياً لإنسانيته، ولفطرته. 


إن سينما زولاوسكي هي سينما ذاتية تفرض الحقيقة كما يراها صاحبها تتأرجح بين الوعي واللاوعي، تعرض الصراع المستمر بين الشر والخير وتهتم في المقام الأول بالصراع الميتافيزيقي، صراع الإنسان مع ذاته، مع فطرته وحقيقته سعياً لفهم كل مُبهم..


إن تطرف وجنون زولاوسكي هو جزءُ لا ينفصل عنه وبالتالي فإن تلك العبقرية لم تكن لتكتمل لولا تلك الرغبة الدائمة والملحة في الحياد والتمرد، وبذلك فإن الشر، التمرد، الحياد عن المألوف هم مُولدو الإبداع عند زولاوسكي ولا يمكن فصلهمها عنه..


 إن أدق ما يمكن وصف سينما زولاوسكي به هو


 "ما لا يدرك كله يترك كله"




تعليقات