القائمة الرئيسية

الصفحات

سقراط في زي عصري - تيرانس ماليك والحياة الخفية لأبطال الظل

 لم يؤمن سقراط بآلهة أثينا، وآمن بما أسماه صوته الداخلي- ضميره..

وقبل محاكمة سقراط اعترض طريقه رجل يسمى بآوطيفرون، خاض معه سقراط نقاش حول ماهية العدالة، ويعيد سقراط في تلك المحاورة مع آوطيفرون تعريف مفاهيم مثل الحق والباطل، التقوى والضلال...

بعد الحكم على سقراط بالموت، يزوره في سجنه صديق، يخبره بأن أمامه فرصة للهرب؛ بتخليه عن تعنته، وموقفه ضد حكام أثينا، وبذلك يهرب من الموت..وبالطبع يكون رد سقراط هو الرفض وتفضيل الموت عن التخلي عن موقفه..

  على الأرجح كانت المحاولة الأخيرة مع سقراط في سجنه هي قصة متخيلة- مجاز مُختلق من قبل أفلاطون، كدلالة على الصراع المحتدم بداخل عقل سقراط- ضد الشيطان نفسه، لإقناع سقراط بالتخلي عن موقفه السامي ثمنًا لحياته..



وفي فيلم "حياة خفية" لتيرانس ماليك نرى سقراط في هيئة رجل عصري في ظل الحرب العالمية الثانية، لا يؤمن بحكامه الطغاة- الآلهة كما يراهم غيره من الناس..

فبطل فيلم ماليك وهو "فرانز" يبدأ بالتشكك في موقف وطنه ومجتمعه تجاه الحرب، ويبدأ بمحاولة تعريف مفاهيمه عن كل من الظلم والعدالة والخير، ليستقر فرانز في الأخير على موقفه؛ وهو عدم الانصياع لما تفرضه النازية، ويرفض التصالح معها بأي شكل من الأشكال...

تتلاقى حكاية فرانز- المقتبسة عن قصة حقيقية مع موقف سقراط قديمًا، وذلك ما يشير إليه تيرانس ماليك في كل مرة، وكل موقف يتعرض له بطله فرانز...


ولا يسأم ماليك من التأكيد على نبل فرانز، وتمسكه بموقفه، والذي لن ينال من وراءه أي شهرة أو مجد، بل يؤكد في كل مرة أن ما يحرك فرانز هو ضميره وصوته الداخلي الذي يؤمن به، كما آمن سقراط بالمثل من قبل..

ولا ينفك ماليك عن الإشارة لحكاية سقراط، وجعلها تتداخل مع حكاية بطله...

ففي المشهد بالأسفل يعرض ماليك ما يشبه محاورة آوطيفرون سقراط قبيل محاكمته، والنقاش حول ماهية مفاهيم مثل الحق والباطل، الجيد والسيء..






وقبل النطق بالحكم النهائي يتعرض فرانز للمثل؛ الذي تعرض له سقراط، وهو أن يكون مخيرًا بين الحياة والموت، ولمرة أخيرة، فيُعرض عليه التخلي عن موقفه ضد النازية مقابل حياته، ليكون رد فرانز قاطع وأخير بتمسكه بموقف، وإيمانه الذي لم ينقطع بصوته الداخلي، برغم العذاب الذي تعرض له...




 وتتلاقى الظروف التي تعرض لها فرانز مع حكاية سقراط في مواطن أخرى، كزيارة زوجته له قبل موته، وذهابه للمحاكمة بنفسه، لإعلان موقفه بالرفض، تلك الشجاعة وذلك النبل الأخلاقي كان أكثر ما تميز به سقراط، وهنا يمثله ماليك في بطله، شديد العادية، غير متحل بأي قوى خارقة، ولكنه يراه كبطل حقيقي بسبب إيمانه، وقدرته على تحمل الاختلاف عن مجتمعه، وصراعه ضد السلطة..


إن اختيار ماليك تسليط الضوء على فرانز ومن هم مثله لأنه يرى أن الفضل الأكبر في انتشار الخير في العالم يرجع لأولئك الأبطال الذين عاشوا في الظل، ولم ينصفهم التاريخ ونسيهم البشر...



ماليك يختار لفيلمه أن يميل لتيمة هادئة، برغم صخب موضوعه إلا أنه مليء بالدفء والحميمية، وهنا يعرض ماليك مفارقة ما بين حياة البشر قبل الحرب، والحياة في ظلها، بسبب جشع الحكام وأنانيتهم، فتلك الحياة التي يبدأ بها ماليك فيلمه، هي الحياة المثلى للبشر، حياة مليئة بالدفء والسعادة والحب، وتخلو من الحرب...

وينهي ماليك فيلمه باقتباس لجوروج إيليوت وتحية، لأولئك المجهولون..


ولأن ازدياد الخير في العالم اعتمد بشكل جزئي على أدوار غير محورية- لم يذكرها التاريخ
ولأن الأمور ليست بالسوء الذي تبدو عليه، معي ومعك
فنحن ندين بنصف ذلك الفضل لأولئك المجهولين..
 الذين عاشوا بصدق على هامش الحياة 
ويقيمون الآن في قبور مَنسية.

- جورج إيليوت

خاتمة فيلم A hidden life لتيرانس ماليك.











تعليقات