القائمة الرئيسية

الصفحات

ما يجعل من الرمز رمزًا - عن تاركوفسكي، بيلا تار وغيرهم

 




" ما يجعل من الرمز رمزاً "


إن الرمز خدعة، قشرة أحادية يتوارى خلفها معناً هش، بمجرد لمسها تزول ويفقد المعنى أثره... 


ما يعيب الرمز هو جموده والجمود بدوره يقيد الفكر ويجعل من المتلقي عبداً له، يحيد من خياله لأنه يقتصر على معناً واحد وإن هذا ليعيب صاحب العمل نفسه أكثر من المتلقي فالرمز أو إن صح القول"  الصورة " من الضرورة أن تحوي الكثير وليس الكثير في ما يريد صاحب العمل قوله من خلف الصورة بل بما يستنبطه المتلقي هو نفسه من خلف تلك الصورة... 


إن أكثر ما يعيب الرمز ويجعل منه علةً تعيب العمل الفني وتنتقص منه هو اعتماد الفنان أو المُلقن على أن المُتلقي بالضرورة يجب أن يكون لديه العلم المسبق بالرمز وهذا هو ما يجعل من الرمز أحادي المعنى وبذلك يكون فقيراً 

فمثلاً في فيلم المرشد لتاركوفسكي إذا كان لدى المُتلقي العلم المسبق بإن الكلب يرمز إلى العدم وبمجرد مشاهدة الكلب يحوم حول المرشد يهلل المشاهد فرحاً بأنه علم لتوه أن المرشد محاطُ ومكبل بالعدم وهذا هو الكارثة بعينها لأنه فيما يفيد علم المتلقي أن الكلب يرمز للعدم بدون أن يكون لديه خلفية مسبقة عن الصورة بأكملها، عن الحالة التي جعلت في الأساس من الكلب يرمز للعدم! 

إن السر يكمن في معرفة ما أدى إلى ذلك واستنباطه وليس الإشارة إليه وهو خاوي القيمة والمضمون.. 


إن الرمز ماهو إلا مكمل للصورة والصورة تعتمد على أكثر من ماهو أحادي فالصورة تكون نتاجاً من المضمون والمضمون إن أخذنا فيلم المرشد كمثال هو أن شخص المرشد قد استسلم لخيالاته المريضه، تخلى عن عائلته وغرق في المادية وبذلك قد تناسى روحه وكل هذا ما يجعله في النهاية راقداً يحوم حوله الكلب.. إن الكلب في المشهد الذي يحوم فيه حول المرشد ما هو إلا مُتمم للمعنى، المعنى الذي استنبطه المتلقى طوال مشاهدته للعمل الفني وبذلك يملك المشهد قدسية خاصة في أنه أتى مكملاً للصورة، لكن إذا لم يقم تاركوفسكي بتقديم ما يكفي من الأسباب قِبلاً لجعل المرشد متآخي مع العدم فبذلك يتجرد الكلب من رمزيته ويصبح كلباً يحوم حول شخصٍ يرقد في بركة من الماء لا أكثر وهذا بدوره أيضاً ينطبق على فيلم اللعنة لبيلا تار ففي النهاية يقوم الكلب بدوره بالنباح فيرد عليه البطل بالنباح، إن لم يكن تار قد قدم ما يكفي من الأسباب لتعرية رمزه في ذلك المشهد فإن الكلب بدوره يصبح كلباً عادياً ينبح والبطل هو رجلُ إما قد غضب من نباح الكلب فيرد عليه وإما يرد إغاظة الكلب ولكن من جديد يكتسب المشهد خصوصيته وقدسيته عن طريق الصورة والتي هي المضمون الذي يستنبطه المتلقي طوال مشاهدته للتجربة... 


إذن فالمضمون هو ما يضع تعريفاً للرمز وهذا التعريف يكون شاملاً لتأويلات عدة ولكن الإعتماد على الرمز وأحاديته يجعل منه محدوداً وخاصاً ولا يقبل التأويل ولهذا فإن الرمز بدوره متمماً للمضمون وليس العكس والمشاهد يجب أن يستنبط الرمز وليس أن يكون لديه العلم المسبق به أو يقتصر الرمز على تعريفٍ أحادي لأنه بذلك ينساق خلف صاحب العمل الفني ويحد من خياله وهذا يتعارض مع مفهوم الفن...


المطر يملك الشمولية بعض الشيء إذا تمت مقارنته بالكلب كرمز فالكلب هو رفيق لشخص أو اثنان أما المطر فهو رفيق الجميع، يحبه  البعض ويمقته الآخر... 


المطر في أي عمل فني هو مطر لا أكثر لكنه وفي بعض الأحيان قد يمتلك الخصوصية والقدسية التي امتلكها الكلب.. 


 لو افترضنا أن شخصاً يمشي في الشارع وبدأ المطر بالهطول هنالك احتمالان، الأول هو أن يبدأ الشخص بالإختباء والثاني هو أن يستمتع بالمطر، في الحالتان فالمطر ليس رمزاً لأن تعريفه أحادي ولم يُسبق بمضمون والتعريف الأحادي هنا هو تعريف للشخصية ذاتها ففي الحالة الأولى قد يكون الشخص جباناً بطبعه أو يميل للوحدة فيحتمي من المطر والثانية هو أن الشخص مرح فيبدأ اللهو في المطر وليس بالضرورة أن يحتوي المطر في تلك الحالة على تعريفٍ أحادي حتى لأن الشخص الأول قد يختبئ من المطر لأنه لا يرد أن تكون ملابسة مبتلة ببساطة وكل هذا يجعل من المطر مطراً... 


إن ما يجعل المطر رمزاً هو المضمون الذي لمسه المتلقي واستنبطه طوال مشاهدته للعمل الفني فمثلاً في تجارب مثل 

V for Vendetta، Shawshank redemption


فالبطلان قد فقدا معنى الحرية وذاقا مرارة السجن ولكن يمتلك المطر قدسيته عندما يهطل ويصبح رمزاً للحرية والخلاص فقط لتزامنه مع الوقت الذي تحررا فيه وردة فعلهما تجاه هطوله هو ما يتمم ذلك المعنى، ولكن في تجارب مثل 

American Beauty, Magnolia 

فالمطر يتزامن مع حدوث الكوارث وهو بذلك رمز عن العقاب ونذير شؤم للجميع ويستنبط المتلقي ذلك من خلال المضمون  وهو أن جميع من في تلك التجارب كانوا مذنبين وبذلك فإن المطر في تلك الحالة هو السوط الذي يعاقبهم على أفعالهم... 


في الحالات السابقة التي ذُكر فيها المطر وبرغم أن تم تعريفه كرمز تم استنباطه واعتمد على مضمون فهو في النهاية محدود التعريف وغير مرن أو قابل للتأويلات المتعددة وهذا ما يجعله فقيراً أيضاً مقارنة بأقرانه من التجارب أمثال 

Stalker, Damnation 


ومن الطبيعي وجود هذه المفارقة لأن هذا ما يميز تجربة عن أخرى والأفضل دائماً في رأيي هو ما يكون دائماً قابلاً للتأويلات العدة لأنه يعطي الحرية للمتلقي ولا يحد من خياله...

تعليقات